تمر مدينة القدس هذه الأيام بمرحلة من أخطر مراحل تاريخها القديم والحديث ، فعشية ضرب العراق بدأ العد التنازلي في تهويد الجانب الشرقي من المدينة المحتلة لإيجاد توازن ديموغرافي يجعل من اليهود أكثرية في الجانب الذي تسكنه أغلبية مسلمة .
ومخطط التهويد يزيد عمره اليوم عن نصف قرن ، فمنذ وقعت القدس تحت الاحتلال الصهيوني عام 1948م ، بدأت إسرائيل أعمالها المنظمة في تهويد المدينة المقدسة وبدأت بشقها الغربي الذي استطاعت احتلاله حينها ، حيث عملت على طمس كل معالمه العربية والإسلامية وحولته في سنوات قليلة إلى مدينة لا صلة لها بعمقها العربي والإسلامي .
وفي عام 1967م احتلت إسرائيل الجزء الشرقي من القدس ( المدينة القديمة ) ، وعندها اكتملت خطتها بتهويد المدينة المقدسة وطمس هويتها وتشويه حضارتها ، وهدم كل ما يمت للعرب والمسلمين بصلة من مبانى ومؤسسات وآثار ، حتى أصبح الخطر الآن يحيط بالمسجد الأقصى المبارك الذى يزعم اليهود أنه أقيم مكان هيكل سليمان القديم ، ويتخذون هذه الفرية ذريعة لهدمه، وإقامة هيكلهم على أنقاضه .
ومنذ بداية احتلال المدينة وإلى اليوم استطاعت إسرائيل بالحقائق والأرقام أن تعمل على تهويد القدس، وتحويلها إلى مدينة شبه يهودية ، ولا تزال تضيق على من بقي من سكانها العرب ليتركوها ، نتيجة إجراءات مضايقة شديدة من السلطات الإسرائيلية لإيذاء السكان العرب وإرغامهم على الهجرة خارج القدس . . وها هي اليوم تستغل الأحداث الجسيمة التي تمر بها المنطقة العربية ، منذ بدأت حرب العراق ، وانشغال العالم بهذه الحرب ، وتعمل على استكمال مخططها التهويدي بشأن المدينة المقدسة.
ولم يعبأ الصهاينة بالحقوق العربية والإسلامية فى القدس ولا بالقرارات الدولية التى أصدرها مجلس الأمن لإدانة ما يفعلونه فى القدس من هدم وتشويه ، وإنما سعوا فى مخطط التهويد على قدم وساق فدنسوا المقدسات، واستولوا على العقارات الإسلامية وهدموا معظمها ، وبدأوا حفرياتهم فى القدس وغيروا طابعها الديموغرافى والسكانى ، وجاء بعد ذلك المخطط الاستيطاني الكبير ، والذي استهدف تطويق المدينة بما يزيد عن 25 مستوطنة صهيونية يقطنها 160 ألف يهودي، وتفتيت الوجود العربي في المدينة المقدسة بشتى الوسائل، وقد وصلت إسرائيل إلى الانتهاء من مرحلة التطويق -خصوصاً للقدس العربية- وقطعت مراحل متقدمة في مجال إنهاء الوجود العربي فيها ، ونسيت أن القدس كانت قبل التاريخ عربية، وستبقى إلى نهاية التاريخ عربية إسلامية.
مخطط التهويد
ولقد أكدت دراسة فلسطينية أن عملية تهويد مدينة القدس لا تقتصر على اقتلاع السكان والتغيير الديموغرافي فحسب ، بل امتدت إلى محاولة إحداث تغيير جذري للوجه التاريخي لمدينة القدس التي حافظت على طابعها على مر العصور.
وأشارت الدراسة التي نشرتها مجلة ( المجلس )- التي تصدر عن المجلس الوطني الفلسطيني وأعدها الدكتور عز الدين العراقي- إلى قيام سلطات الاحتلال الإسرائيلي بتغيير أسماء الأحياء في القدس وضواحيها. كما قامت على مدى أكثر من ثلاثة عقود، وتحت ذرائع مختلفة بعملية هدم واسعة للأحياء العربية في القدس القديمة، كعملية هدم حي المغاربة وحي الشرق، وإصدار القوانين التي تضع العراقيل أمام سكان المدينة من الفلسطينيين، وتمنعهم من القيام ببناء منازل جديدة لهم أو إخلاء منازلهم.
وأضافت الدراسة أن السلطات استمرت في سياسة مصادرة الأراضي والأملاك، وهدم البيوت والحصار والخنق الاقتصادي لإجبار الفلسطينيين على ترك منازلهم لإحلال المزيد من المستوطنين مكانهم، وامتدت عملية التهويد إلى المقدسات والمواقع الإسلامية والمسيحية في القدس.
مستوطنات القدس
وأوضحت الدراسة أن الدولة العبرية تعتمد استراتيجية سياسية "فرض الأمر الواقع" أو إيجاد واقع جديد، وذلك من خلال خطط الاستيطان الرامية إلى إقامة المزيد من المستوطنات حول وداخل القدس بشكل خاص.
وحسب دراسة الدكتور (العراقي) فإنه ومنذ عام 1968 شرعت الدولة اليهودية في إقامة حزام استيطاني من الأحياء السكنية اليهودية يحيط بالقدس من الناحيتين الشمالية والجنوبية، وما تزال تنوي إقامة المزيد منها، وقد أصبح عددها الآن ثلاثة أحزمة أحاطت المدينة بجدار من القلاع الإسمنتية المؤلفة من أبنية عالية ضخمة.
■ الحزام الأول: ويشمل مستوطنات رامات اشكول، والتلة الغربية.
■ والحزام الثاني: نفذ على مراحل منذ عام 1970، وحدوده هي مستوطنة النبي يعقوب شمالاً ومستوطنة (تل بيوت- غيلو) جنوبًا.
■ والحزام الثالث: خارج حدود القدس، ولكن أقرب للمدينة، ويحيط بها مثل مستوطنة معاليه أدوميم جنوب شرق القدس على طريق (القدس- أريحا)، ومستوطنة جمعان زئيف شمال غرب القدس.
كما سعت قوات الاحتلال إلى تطويق القدس بطوقين من المستعمرات؛
■ الطوق الأول يحاصر المدينة القديمة جنوبًا، والأحياء العربية المجاورة لها تمهيدًا لإخلائها من السكان.
■ أما الطوق الثاني فيقوم على الأرض الواقعة ضمن حدود أمانة القدس العربية، ويتألف من عدد من الأحياء السكنية الإسرائيلية تطوّق الأحياء العربية من الجهات الجنوبية والشمالية والشرقية مشكِّلة جدارًا عازلاً بين المدينة العربية والتجمعات السكنية.
ولاحظت الدراسة أن الدولة العبرية اتبعت في الصراع الذي تخوضه ضد الوجود العربي الفلسطيني في مدينة القدس ثلاث إستراتيجيات سياسية لتدمير هذا الوجود واستئصاله ماديًا ومعنويًا، وهي سياسة العزل -عزل المدينة جغرافيًا وسياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا عن بقية الأراضي الفلسطينية، والطرد "من أجل تفريغ مدينة القدس من سكانها العرب-، والاحتلال الاستيطاني .
75% يهود
ولقد وضعت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة هدفا هو " أن تكون نسبة اليهود إلى العرب في القدس ، هي ثلاثة يهود مقابل عربي واحد " ، بمعنى أن تكون نسبة اليهود في القدس 75% من السكان والعرب 25%
ففي عام 1995م- وكما ذكرت وكالة الأنباء الإسلامية - أشار آخر إحصاء إسرائيلي إلى أن نسبة اليهود هبطت إلى 70 % وذلك حسب التقرير الذي نشره معهد القدس لأبحاث إسرائيل ، وقد آثار ذلك التقرير ضجة في إسرائيل وفي الصحف الإسرائيلية ، حيث شعر الإسرائيليون بالقلق من هبوط النسبة عن معدلها المقرر 75 % ، ولذلك بذلت الحكومة الإسرائيلية كل جهدها للمحافظة على هذه النسبة ، وذلك بتشجيع البناء اليهودي في القدس أو إبعاد العرب عن المدينة
فالحكومة الإسرائيلية تتحرك بسرعة عند هبوط النسبة عن معدلها المقرر لها ، والحقيقة أن عدد اليهود لم يهبط في القدس ولكن عملية الإحصاء التي أجريت عام 1995م أبرزت وجود أزواج وزوجات من غير اليهود في أوساط المهاجرين من الاتحاد السوفييتيالسابق ، لذلك قرر مكتب الإحصاء المركزي في إسرائيل تغيير التصنيف القديم " يهود وغير يهود " إلى " يهود وعرب وآخرين " وبناء على ذلك اسقطوا من حساب عدد اليهود عدة آلاف صنفوا تحت اسم " آخرين " ، مما جعل نسبة اليهود تهبط إلى 70 % من نسبة السكان
أما تقرير مجلس الإحصاء الفلسطيني التابع للسلطة الوطنية الفلسطينية فقد أوضح أن عدد العرب في عام 1998م في القدس (217) ألف نسمة وليس 196 ألف نسمة حسب ما أدعى الإسرائيليون ، ولو كان هذا صحيحاً فمعني ذلك أنه مقابل كل اثنين يهوديين يوجد عربي واحد ، لكن معطيات الإحصاء الفلسطيني اعتمدت على الإحصاء الذي أجراه المركز الإسرائيلي عام 1995م لأن السلطات الإسرائيلية منعت الفلسطينيين من إجراء الإحصاء الخاص بهم
ورغم أن الإحصاء الفلسطيني أوضح أن آلاف الفلسطينيين من غير سكان القدس قد جاؤوا إليها من بيوتهم في الضفة الغربية حتى يتم تسجيلهم في عملية الإحصاء ثم عادوا إلى بيوتهم مرة أخرى بعد انتهاء الإحصاء ، وسبب ذلك أن تعداد السكان الذي استخدم خلاله الإحصاء كان لتحديد حق المواطنة في القدس .
إن التوازن الديمغرافي الصحيح هو ذلك الذي ينتج من ضم السكان الذين يسكنون في المساحة المقدسة المبنية بشكل مكتظ بالسكان ، حيث توجد حالة مساواة ديمغرافية بين العرب واليهود ، ربما يكون العرب أغلبية فيها ، لكن إسرائيل تقيم مستوطنات كبيرة داخل القدس وحولها وتحاول ربط القدس بتلك المستوطنات حتى ترتفع نسبة اليهود في القدس ، والحقيقة التي لا ينكرها أحد أن اليهود أقلية في القدس الشرقية رغم كل جهود إسرائيل المبذولة لتهويد المدينة .
مساحة القدس الشرقية
وبالنسبة لمساحة القدس الشرقية فهي لم تتغير منذ عام 1967م ، حيث بقيت 6 كيلومترات مربعة فقط على الرغم من التزايد الطبيعي للسكان ، بينما تضاعفت مساحة القدس الغربية منذ ذلك التاريخ إلى اليوم لتصل إلى 38 كيلومتراً مربعاً ، وهو ما يوضح مدى التضييق الذي يعيشه الفلسطيني في القدس.
وتكتمل المأساة إذا علمنا أن عدد سكان القدس الشرقية الآن 219 ألف نسمة فقط ، لا يمكنهم التوسع في الرقعة الجغرافية التي يشغلونها خارج حدود مناطق 1967م ، بينما بلغ عدد اليهود في المنطقة ذاتها 640 ألف نسمة، وهؤلاء أحرار بحسب القانون الإسرائيلي في التوسع في كافة أرجاء القدس.
ويقوم مشروع التهويد على ثلاثية المشروع الصهيوني ـ الدين، والسياسة، والأرض ـ ويرتبط الموضوع الديني بالأرض والسياسة ارتباطاً عضوياً ، لا سيما أن اسم دولة إسرائيل يربط الأرض بالدين .
الحفريات الصهيونية
ولكن الإثبات التاريخي مازال يقف حائلا في وجه علماء الآثار اليهود الذين اجتهدوا للحفر تحت مدينة القدس بأكملها ، ولكنهم اصطدموا دائما بآثار أموية من مساجد وأسواق، ولم يجدوا ما يروي ظمأهم .
وتنقسم الحفريات في القدس إلى قسمين الأولى سطحية ، وهي حفريات توقفوا عنها لأنها لا تعزز إلا الوجود الإسلامي في القدس ، ولكن الخطورة تكمن في الثانية وهي : الحفريات الأخرى (التحتية) فرغم أنها لم تفرز -منذ (30) عاما-ً إلا آثاراً عربية وإسلامية ؛ فإن المشروع اليهودي يرتكز الآن إلى أبعد من ذلك بكثير ، فهو يهدف إلى ربط الحفريات من منطقة سلوان وحتى المسجد الأقصى ، لبناء مدينة داود التي يقولون إنهم وجدوا بداياتها تحت مناطق من سلوان وإنها تستمر حتى قبة الصخرة .
مشروع "القدس الكبرى".
ولا بد من الوقوف أمام إحداثيات مشروع " القدس الكبرى " الذي تسير إسرائيل وبخطى ثابتة في تطبيقه ، والذي يعتبر عنواناً للحملة الاستيطانية الأخيرة في القدس ، والتي بدأت منذ سنوات ، وهي حملة متناسقة على المستويات كلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وهذا المشروع يرتكز على عدة أمور تتمثل في مصادرة الأراضي من قرى الضفة الغربية المحيطة بالقدس وضمها إلى مستوطنة "معاليه أدوميم"، وربط ا لمستوطنة ببقية القدس الغربية ، مما سيضيف حوال 53 كيلومتراً مربعاً إلى مساحة القدس .
كما يرتكز مشروع "القدس الكبرى" على أن تقترن مستوطنة معاليه أدوميم بنهر الأردن ، ومن ثم تقترن "القدس الكبرى" بتل أبيب ؛ مما سيقسم القدس الغربية إلى قسمين جنوبي وشمالي ، والنتيجة هي خلق شريط إسرائيلي على الأرض بين شطري الضفة الغربية ، مما سيمكن إسرائيل من فرض شروطها على السلطة الفلسطينية بدون أن تفرط في القدس الحقيقية .
فقد كشفت الإذاعة الإسرائيلية منذ سنوات عن تقرير سري صَادَق عليه (حزب العمل) عام 1993م ينص على: "توسيع حدود بلدية القدس لتشمل عدداً من المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية". واستناداً إلى هذا التقرير الذي وضعه عشرات الباحثين اليهود فإن حدود القدس يجب أن تمتد جنوباً حتى المستوطنات في قطاع " عوس عتسيون" بين بيت لحم والخليل، وشرقاً حتى "معالية أدوميم"، وشمالاً حتى حدود بلدتي رام الله والبيرة، وغرباً حتى مستوطنة "بيت شيمش".
ونشرت الصحافة الإسرائيلية تفاصيل إضافية عن أبعاد التوسع الأخير والمخططات الاستيطانية في المدينة وحولها، فظهرت في صحيفة "يديعوت أحرونوت"خريطة جديدة لـ "القدس العظمى" تتسع بموجبها حدود المدينة لتشمل دائرة قطرها 23 كيلومتراً أي ما يعادل 10ـ15% من مساحة الضفة الغربية.
وتم تشكيل لجنة يهودية من كبار الفنيين المختصين من وزارتي الداخلية والإسكان وإدارة أراضي إسرائيل وبلدية القدس لوضع خطة هيكلية لتطوير "القدس العظمى" ضمن الحدود المشار إليها، وكان ذلك في فترة حكم الليكود . ومع وصول (العمل) إلى الحكم عام 1993م صادقت الحكومة الجديدة على مواصلة هذه اللجنة لعملها الذي لايزال مستمراً حتى اليوم.
ولاشك أن إسرائيل قد قطعت شوطاً كبيراً في تنفيذ مخطط "القدس العظمى" خاصة مع ارتفاع نسبة التملك الإسرائيلي للأراضي والعقارات في القدس وذلك إثر الضغوط المتلاحقة على المواطنين وما يتعرضون له من إيذاء وضرر وزج الأطفال والشباب في غياهب السجون لحمل أهلهم على التخلي عن السكن في مدينة القدس وكان من نتيجة ذلك أن أصبحت نسب التملك في القدس 84% لليهود و14% للعرب و 2% للأجانب مع العلم بأن هذه النسب كانت عام 1948م وما بعدها بما فيها القدس الغربية 4% لليهود و94% للعرب و2% للأجانب هذا إلى جانب إقامة المستوطنات وتطويق القدس بأكثر من 25 مستوطنة من جهاتها المختلفة، ونتيجة لكل هذا تغيرت القدس إلى حد يصعب معه تمييزها؛ فضاع سحرها وجمالها!!
ولعل ذلك ما جعل المهندس اليهودي "إبراهام كحيلة" الذي وضع تصميم مشروع "القدس الكبرى" يقول : سيستحيل على "ياسر عرفات" أن يزعم أن القدس الشرقية هي عاصمته لأن عمليات البناء التي قمنا بها ستجعل تقسيم المدينة من جديد أمراً مستحيلاً.
حظر النشاط الفلسطيني
ويتضمن مخطط "القدس الكبرى" حظر ومنع أي نشاط فلسطيني رسمي في القدس فقد ذكرت صحيفة "هارتس" أن جهاز الأمن الإسرائيلي وضع وثيقة داخلية تتعلق بنشاطات مؤسسات فلسطينية ذات طابع رسمي أو حكومي في القدس ووسائل وقف هذه النشاطات وإغلاق تلك المؤسسات وتقول الوثيقة :إنه من الحيوي استخدام قانون تطبيق اتفاق (غزة ـ أريحا) للعمل ضد مؤسسات فلسطينية ذات طابع حكومي والتي تمس بسيادتنا على القدس".
وحتى الآن لم تحدد الحكومة الإسرائيلية مساحة أراضي القدس العظمى رسمياً ليظل الأمر مفتوحاً أمامها لضم مستوطنات ومساحات جديدة إلى القدس عن طريق فرض الأمر الواقع ثم تثبيته بعد ذلك، وهي السياسة نفسها التي اتبعتها في إقامة وتوسيع الكيان الصهيوني ككل، فمثلما لم ترسم حدوداً نهائية للدولة منطلقة من حدود 1947م كرأس جسر شرعي لها كذلك انطلقت من حدود القدس لعام 1948م فعام 1967م وما تلاه منتقلة من مرحلة خلق الواقع إلى مرحلة تثبيته.
ولا تزال إسرائيل تنتهج السياسة ذاتها تجاه الوجود العربي في القدس وفي سائر فلسطين الهادفة إلى تفتيته وتصفيته ومن ثوابتها في هذا المجال الاستيلاء على الأراضي والتهجير القسري والسيطرة على المياه والمصادر الطبيعية الأخرى وعرقلة البناء وهدم المنازل، فحصول العرب على ترخيص بالبناء في القدس من أصعب الأمور وإذا حصلوا على الترخيص فإن نسب عمليات البناء للعرب تتراوح بين 15 و 75% من مساحة الأرض، أما اليهود فتصل نسبتهم إلى 300% ولهم بناء ثماني طوابق أم العرب فلا يسمح لهم إلا ببناء منازل من طابقين فقط.
أربعة محاور للتهويد
فالقدس اليوم تواجه خطر محاولات القضاء على هويتها العربية الإسلامية . وتقوم استراتيجية إسرائيل فى خطتها الاستعمارية لمحو شخصية المدينة التاريخية وفق خطة منظمة ذات محاور أربعة:
يتمثل المحور الأول: فى تفسير التاريخ البشرى تفسيراً يهودياً يخدم هذه الدولة ومواطنيها، والفكر الصهيونى الذى تقوم عليه ، متجاهلاً بشكل تام حقائق التاريخ ومعطياته وثوابته ، ويتأكد هذا المحور فى الادعاء بأن القدس يهودية ، متجاهلين فى ذلك الحقائق التاريخية والثوابت الجغرافية التى تؤكد أن القدس مدينة عربية النشأة والتطور، أسسها العرب الكنعانيون الذين سكنوا فلسطين فى الألف الثالث قبل الميلاد ، وإن هذه المدينة ، كما جاء فى كتاب العهد القديم نفسه لم تكن أبدا خالصة لبنى إسرائيل حتى خلال الفترة الإسرائيلية - التى تمثل الفترة المزدهرة فى تاريخ بنى إسرائيل فى فلسطين - من تاريخها والتى تبدأ من عصر داود . وتستغل إسرائيل جميع المحافل الدولية وأية فرصة تسنح لها على المستوى الدعائى والإعلامي فى العالم لإقحام القدس فى المناسبات المختلفة والترويج -زورا وبهتانا- بأنها مدينة اليهود تضرب بجذورها فى التاريخ اليهودى ، وأنها عاصمة أبدية لدولة إسرائيل ؟!
وترمى هذه الخطوات التى تتم فى الخفاء إلى تضليل الرأى العام العالمى من ناحية ، وتعكس من ناحية أخرى مخططاً محكماً ومؤامرة صهيونية –إسرائيلية مدروسة على هذه المدينة وتاريخها وعروبتها لاقتلاع الوجود العربى الإسلامي فيها من الأساس ، من خلال تزييف التاريخ وطمس معالم الحق العربى .
امتلاك القوة العسكرية
ويدور المحور الثانى: حول امتلاك القوة العسكرية واستخدامها في مواجهة الدول العربية والإسلامية المجاورة ، فبدأت فى التسلح بالسلاح النووى لردع أية دولة عربية أو إسلامية تحاول التصدى لها ، وأصبحت تملك ترسانة نووية تشكل تهديدا لمنطقة الشرق الأوسط بأسرها .
أما المحور الثالث للاستراتيجية التى تنتجها إسرائيل: فيقوم على إلغاء المرجعية القانونية التى تخص الصراع العربي الإسرائيلي بشكل عام ، وإلغاء المرجعية القانونية التى تخص مدينة القدس بشكل خاص ، والمقصود بالمرجعية القانونية هنا القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن الصراع ومظاهره ، ومن المعروف فى هذا السياق أن إسرائيل تتبنى موقفا معاديا من هذه القرارات ، لأنها تجمع على إدانتها وإدانة تصرفاتها لذا لا تعترف إسرائيل بها ومن ثم لا تعمل على تنفيذها بل تسعى إلى إلغائها كما حدث مع قرار الأمم المتحدة الذى يقضى بالربط بين الصهيونية والعنصرية عام 1989م . ولكنها تقبل من القرارات الدولية التى تتفق مع ما تريد ، فقد قبلت عند الإعلان عن قيامها بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 والقاضي بتقسيم فلسطين ، لأن الجزء اليهودى فى هذا القرار شكل نواة الدولية الصهيونية الوليدة ، وأعطى اليهود 56% من أرض فلسطين فى حين انهم كانوا يمثلون 5.6 % من نسبة السكان قبل التقسيم ، ولكن إسرائيل لم تعد تقبل بهذا القرار لأنه يسمح بإقامة دولة فلسطينية ، مع انها أعلنت فى بيان إعلان قيام الدولة احترامها لحق الفلسطينيين فى إقامة دولة مماثلة .
القرارات الدولية
ومن أهم القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة بخصوص الصراع العربي الإسرائيلي قراري مجلس الأمن 242 و 338 وقرارات مجلس الأمن الصادرة فى عامى 1980م و1981 التى لا تعترف بأية قيمة قانونية لضم إسرائيل للقدس وهضبة الجولان السورية المحتلة ، وجميع قرارات مجلس الأمن التى تؤكد أن القدس جزء من الأراضي العربية ، وأن هذه الأراضي محتلة . وتحرص إسرائيل فى مفاوضتها السلمية مع الدول العربية على تأكيد أن ما تسفر عنه المفاوضات ينفصل عن مرجعيته بحيث تصبح الاتفاقيات اللاحقة أصلا وليس فرعا وتجب ما قبلها.
ويمكن أن يؤدى نجاح إسرائيل فى إلغاء هذه المرجعية القانونية إلى إضعاف موقف المفاوض الفلسطينى فى مسألة القدس بشكل خاص.
ويسعى المحور الرابع فى الاستراتيجية الإسرائيلية إلى: تحقيق الهدف السابق المتمثل في إضعاف موقف المفاوض الفلسطينى فى مسألة القدس ، وذلك من خلال إلغاء أو الحد مما يمكن أن نسميه المرجعية السكانية الديموغرافية التى تعنى بطبيعة الحال أن الفلسطينيين يمثلون أغلبية واليهود أقلية.. فقد شكل الفلسطينيون - مسيحيون ومسلمون - أغلبية ساحقة فى القدس ، مما يؤكد أحقيتهم بها وأنهم أصحاب الأرض الأصليون دون غيرهم ، والمستوطنون الإسرائيليون يشكلون أقلية حتى فى الوقت الحإلى ، وإن كانت نسبتهم فى المدينة تتزايد ، وقد فطنت إسرائيل إلى خطورة هذه المرجعية مبكراً فأعدّت لها العدة للعمل على إلغائها. وبرز هذا فى المذكرة التى رفعها إسرائيل كوينج ، المسؤول عن المنطقة الشمالية فى وزارة الداخلية الإسرائيلية ، كوثيقة سرية إلى رئيس مجلس الوزراء الإسرائيلى السابق اسحاق رابين 1922-1995م وعدد من كبار المسؤولين الإسرائيلين ، حيث أشار كوينج فى مذكرته إلى زيادة نسبة الزيادة الطبيعية للسكان العرب فى إسرائيل 5.9 %سنويا مقابل انخفاض نسبة الزيادة الطبيعية لليهود 1.5% مما يشكل خطراً على إسرائيل وأمنها ، وتنبأت الوثيقة بسيطرة سياسية وسكانية ديموغرافية عربية فى بعض الأراضى الفلسطينية التى تحتلها إسرائيل .
ومن هذا المنطلق سعت إسرائيل - ومازالت- إلى تغيير هذه المرجعية الديموغرافية ، وتسعى إلى إلغائها من خلال العمل على مسارين متوازيين يسير كل منهما بجوار الآخر..الأول: هو استقدام مستوطنين إسرائيليين متشددين لتوطينهم فى القدس ، ويدخل هؤلاء المستوطنون سباقا مع الزمن لاحتلال المزيد من أراضى المدينة وتهوديها والقضاء المبرم على هويتها العربية والإسلامية وشخصيتها الحضارية المتميزة ، أما المسار الثانى: فيتمثل فى تضييق الخناق على أبناء الشعب الفلسطينى ، أصحاب الأرض الأصليين بحيث لا يجدون أمامهم مفراً من مغادرتها وتركها لهم ، وتحاول تحقيق هذا الهدف عن طريق سن مجموعة من القوانين والتشريعات تقوم على تنفيذها وزارة الداخلية الإسرائيلية .
ومخطط التهويد يزيد عمره اليوم عن نصف قرن ، فمنذ وقعت القدس تحت الاحتلال الصهيوني عام 1948م ، بدأت إسرائيل أعمالها المنظمة في تهويد المدينة المقدسة وبدأت بشقها الغربي الذي استطاعت احتلاله حينها ، حيث عملت على طمس كل معالمه العربية والإسلامية وحولته في سنوات قليلة إلى مدينة لا صلة لها بعمقها العربي والإسلامي .
وفي عام 1967م احتلت إسرائيل الجزء الشرقي من القدس ( المدينة القديمة ) ، وعندها اكتملت خطتها بتهويد المدينة المقدسة وطمس هويتها وتشويه حضارتها ، وهدم كل ما يمت للعرب والمسلمين بصلة من مبانى ومؤسسات وآثار ، حتى أصبح الخطر الآن يحيط بالمسجد الأقصى المبارك الذى يزعم اليهود أنه أقيم مكان هيكل سليمان القديم ، ويتخذون هذه الفرية ذريعة لهدمه، وإقامة هيكلهم على أنقاضه .
ومنذ بداية احتلال المدينة وإلى اليوم استطاعت إسرائيل بالحقائق والأرقام أن تعمل على تهويد القدس، وتحويلها إلى مدينة شبه يهودية ، ولا تزال تضيق على من بقي من سكانها العرب ليتركوها ، نتيجة إجراءات مضايقة شديدة من السلطات الإسرائيلية لإيذاء السكان العرب وإرغامهم على الهجرة خارج القدس . . وها هي اليوم تستغل الأحداث الجسيمة التي تمر بها المنطقة العربية ، منذ بدأت حرب العراق ، وانشغال العالم بهذه الحرب ، وتعمل على استكمال مخططها التهويدي بشأن المدينة المقدسة.
ولم يعبأ الصهاينة بالحقوق العربية والإسلامية فى القدس ولا بالقرارات الدولية التى أصدرها مجلس الأمن لإدانة ما يفعلونه فى القدس من هدم وتشويه ، وإنما سعوا فى مخطط التهويد على قدم وساق فدنسوا المقدسات، واستولوا على العقارات الإسلامية وهدموا معظمها ، وبدأوا حفرياتهم فى القدس وغيروا طابعها الديموغرافى والسكانى ، وجاء بعد ذلك المخطط الاستيطاني الكبير ، والذي استهدف تطويق المدينة بما يزيد عن 25 مستوطنة صهيونية يقطنها 160 ألف يهودي، وتفتيت الوجود العربي في المدينة المقدسة بشتى الوسائل، وقد وصلت إسرائيل إلى الانتهاء من مرحلة التطويق -خصوصاً للقدس العربية- وقطعت مراحل متقدمة في مجال إنهاء الوجود العربي فيها ، ونسيت أن القدس كانت قبل التاريخ عربية، وستبقى إلى نهاية التاريخ عربية إسلامية.
مخطط التهويد
ولقد أكدت دراسة فلسطينية أن عملية تهويد مدينة القدس لا تقتصر على اقتلاع السكان والتغيير الديموغرافي فحسب ، بل امتدت إلى محاولة إحداث تغيير جذري للوجه التاريخي لمدينة القدس التي حافظت على طابعها على مر العصور.
وأشارت الدراسة التي نشرتها مجلة ( المجلس )- التي تصدر عن المجلس الوطني الفلسطيني وأعدها الدكتور عز الدين العراقي- إلى قيام سلطات الاحتلال الإسرائيلي بتغيير أسماء الأحياء في القدس وضواحيها. كما قامت على مدى أكثر من ثلاثة عقود، وتحت ذرائع مختلفة بعملية هدم واسعة للأحياء العربية في القدس القديمة، كعملية هدم حي المغاربة وحي الشرق، وإصدار القوانين التي تضع العراقيل أمام سكان المدينة من الفلسطينيين، وتمنعهم من القيام ببناء منازل جديدة لهم أو إخلاء منازلهم.
وأضافت الدراسة أن السلطات استمرت في سياسة مصادرة الأراضي والأملاك، وهدم البيوت والحصار والخنق الاقتصادي لإجبار الفلسطينيين على ترك منازلهم لإحلال المزيد من المستوطنين مكانهم، وامتدت عملية التهويد إلى المقدسات والمواقع الإسلامية والمسيحية في القدس.
مستوطنات القدس
وأوضحت الدراسة أن الدولة العبرية تعتمد استراتيجية سياسية "فرض الأمر الواقع" أو إيجاد واقع جديد، وذلك من خلال خطط الاستيطان الرامية إلى إقامة المزيد من المستوطنات حول وداخل القدس بشكل خاص.
وحسب دراسة الدكتور (العراقي) فإنه ومنذ عام 1968 شرعت الدولة اليهودية في إقامة حزام استيطاني من الأحياء السكنية اليهودية يحيط بالقدس من الناحيتين الشمالية والجنوبية، وما تزال تنوي إقامة المزيد منها، وقد أصبح عددها الآن ثلاثة أحزمة أحاطت المدينة بجدار من القلاع الإسمنتية المؤلفة من أبنية عالية ضخمة.
■ الحزام الأول: ويشمل مستوطنات رامات اشكول، والتلة الغربية.
■ والحزام الثاني: نفذ على مراحل منذ عام 1970، وحدوده هي مستوطنة النبي يعقوب شمالاً ومستوطنة (تل بيوت- غيلو) جنوبًا.
■ والحزام الثالث: خارج حدود القدس، ولكن أقرب للمدينة، ويحيط بها مثل مستوطنة معاليه أدوميم جنوب شرق القدس على طريق (القدس- أريحا)، ومستوطنة جمعان زئيف شمال غرب القدس.
كما سعت قوات الاحتلال إلى تطويق القدس بطوقين من المستعمرات؛
■ الطوق الأول يحاصر المدينة القديمة جنوبًا، والأحياء العربية المجاورة لها تمهيدًا لإخلائها من السكان.
■ أما الطوق الثاني فيقوم على الأرض الواقعة ضمن حدود أمانة القدس العربية، ويتألف من عدد من الأحياء السكنية الإسرائيلية تطوّق الأحياء العربية من الجهات الجنوبية والشمالية والشرقية مشكِّلة جدارًا عازلاً بين المدينة العربية والتجمعات السكنية.
ولاحظت الدراسة أن الدولة العبرية اتبعت في الصراع الذي تخوضه ضد الوجود العربي الفلسطيني في مدينة القدس ثلاث إستراتيجيات سياسية لتدمير هذا الوجود واستئصاله ماديًا ومعنويًا، وهي سياسة العزل -عزل المدينة جغرافيًا وسياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا عن بقية الأراضي الفلسطينية، والطرد "من أجل تفريغ مدينة القدس من سكانها العرب-، والاحتلال الاستيطاني .
75% يهود
ولقد وضعت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة هدفا هو " أن تكون نسبة اليهود إلى العرب في القدس ، هي ثلاثة يهود مقابل عربي واحد " ، بمعنى أن تكون نسبة اليهود في القدس 75% من السكان والعرب 25%
ففي عام 1995م- وكما ذكرت وكالة الأنباء الإسلامية - أشار آخر إحصاء إسرائيلي إلى أن نسبة اليهود هبطت إلى 70 % وذلك حسب التقرير الذي نشره معهد القدس لأبحاث إسرائيل ، وقد آثار ذلك التقرير ضجة في إسرائيل وفي الصحف الإسرائيلية ، حيث شعر الإسرائيليون بالقلق من هبوط النسبة عن معدلها المقرر 75 % ، ولذلك بذلت الحكومة الإسرائيلية كل جهدها للمحافظة على هذه النسبة ، وذلك بتشجيع البناء اليهودي في القدس أو إبعاد العرب عن المدينة
فالحكومة الإسرائيلية تتحرك بسرعة عند هبوط النسبة عن معدلها المقرر لها ، والحقيقة أن عدد اليهود لم يهبط في القدس ولكن عملية الإحصاء التي أجريت عام 1995م أبرزت وجود أزواج وزوجات من غير اليهود في أوساط المهاجرين من الاتحاد السوفييتيالسابق ، لذلك قرر مكتب الإحصاء المركزي في إسرائيل تغيير التصنيف القديم " يهود وغير يهود " إلى " يهود وعرب وآخرين " وبناء على ذلك اسقطوا من حساب عدد اليهود عدة آلاف صنفوا تحت اسم " آخرين " ، مما جعل نسبة اليهود تهبط إلى 70 % من نسبة السكان
أما تقرير مجلس الإحصاء الفلسطيني التابع للسلطة الوطنية الفلسطينية فقد أوضح أن عدد العرب في عام 1998م في القدس (217) ألف نسمة وليس 196 ألف نسمة حسب ما أدعى الإسرائيليون ، ولو كان هذا صحيحاً فمعني ذلك أنه مقابل كل اثنين يهوديين يوجد عربي واحد ، لكن معطيات الإحصاء الفلسطيني اعتمدت على الإحصاء الذي أجراه المركز الإسرائيلي عام 1995م لأن السلطات الإسرائيلية منعت الفلسطينيين من إجراء الإحصاء الخاص بهم
ورغم أن الإحصاء الفلسطيني أوضح أن آلاف الفلسطينيين من غير سكان القدس قد جاؤوا إليها من بيوتهم في الضفة الغربية حتى يتم تسجيلهم في عملية الإحصاء ثم عادوا إلى بيوتهم مرة أخرى بعد انتهاء الإحصاء ، وسبب ذلك أن تعداد السكان الذي استخدم خلاله الإحصاء كان لتحديد حق المواطنة في القدس .
إن التوازن الديمغرافي الصحيح هو ذلك الذي ينتج من ضم السكان الذين يسكنون في المساحة المقدسة المبنية بشكل مكتظ بالسكان ، حيث توجد حالة مساواة ديمغرافية بين العرب واليهود ، ربما يكون العرب أغلبية فيها ، لكن إسرائيل تقيم مستوطنات كبيرة داخل القدس وحولها وتحاول ربط القدس بتلك المستوطنات حتى ترتفع نسبة اليهود في القدس ، والحقيقة التي لا ينكرها أحد أن اليهود أقلية في القدس الشرقية رغم كل جهود إسرائيل المبذولة لتهويد المدينة .
مساحة القدس الشرقية
وبالنسبة لمساحة القدس الشرقية فهي لم تتغير منذ عام 1967م ، حيث بقيت 6 كيلومترات مربعة فقط على الرغم من التزايد الطبيعي للسكان ، بينما تضاعفت مساحة القدس الغربية منذ ذلك التاريخ إلى اليوم لتصل إلى 38 كيلومتراً مربعاً ، وهو ما يوضح مدى التضييق الذي يعيشه الفلسطيني في القدس.
وتكتمل المأساة إذا علمنا أن عدد سكان القدس الشرقية الآن 219 ألف نسمة فقط ، لا يمكنهم التوسع في الرقعة الجغرافية التي يشغلونها خارج حدود مناطق 1967م ، بينما بلغ عدد اليهود في المنطقة ذاتها 640 ألف نسمة، وهؤلاء أحرار بحسب القانون الإسرائيلي في التوسع في كافة أرجاء القدس.
ويقوم مشروع التهويد على ثلاثية المشروع الصهيوني ـ الدين، والسياسة، والأرض ـ ويرتبط الموضوع الديني بالأرض والسياسة ارتباطاً عضوياً ، لا سيما أن اسم دولة إسرائيل يربط الأرض بالدين .
الحفريات الصهيونية
ولكن الإثبات التاريخي مازال يقف حائلا في وجه علماء الآثار اليهود الذين اجتهدوا للحفر تحت مدينة القدس بأكملها ، ولكنهم اصطدموا دائما بآثار أموية من مساجد وأسواق، ولم يجدوا ما يروي ظمأهم .
وتنقسم الحفريات في القدس إلى قسمين الأولى سطحية ، وهي حفريات توقفوا عنها لأنها لا تعزز إلا الوجود الإسلامي في القدس ، ولكن الخطورة تكمن في الثانية وهي : الحفريات الأخرى (التحتية) فرغم أنها لم تفرز -منذ (30) عاما-ً إلا آثاراً عربية وإسلامية ؛ فإن المشروع اليهودي يرتكز الآن إلى أبعد من ذلك بكثير ، فهو يهدف إلى ربط الحفريات من منطقة سلوان وحتى المسجد الأقصى ، لبناء مدينة داود التي يقولون إنهم وجدوا بداياتها تحت مناطق من سلوان وإنها تستمر حتى قبة الصخرة .
مشروع "القدس الكبرى".
ولا بد من الوقوف أمام إحداثيات مشروع " القدس الكبرى " الذي تسير إسرائيل وبخطى ثابتة في تطبيقه ، والذي يعتبر عنواناً للحملة الاستيطانية الأخيرة في القدس ، والتي بدأت منذ سنوات ، وهي حملة متناسقة على المستويات كلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وهذا المشروع يرتكز على عدة أمور تتمثل في مصادرة الأراضي من قرى الضفة الغربية المحيطة بالقدس وضمها إلى مستوطنة "معاليه أدوميم"، وربط ا لمستوطنة ببقية القدس الغربية ، مما سيضيف حوال 53 كيلومتراً مربعاً إلى مساحة القدس .
كما يرتكز مشروع "القدس الكبرى" على أن تقترن مستوطنة معاليه أدوميم بنهر الأردن ، ومن ثم تقترن "القدس الكبرى" بتل أبيب ؛ مما سيقسم القدس الغربية إلى قسمين جنوبي وشمالي ، والنتيجة هي خلق شريط إسرائيلي على الأرض بين شطري الضفة الغربية ، مما سيمكن إسرائيل من فرض شروطها على السلطة الفلسطينية بدون أن تفرط في القدس الحقيقية .
فقد كشفت الإذاعة الإسرائيلية منذ سنوات عن تقرير سري صَادَق عليه (حزب العمل) عام 1993م ينص على: "توسيع حدود بلدية القدس لتشمل عدداً من المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية". واستناداً إلى هذا التقرير الذي وضعه عشرات الباحثين اليهود فإن حدود القدس يجب أن تمتد جنوباً حتى المستوطنات في قطاع " عوس عتسيون" بين بيت لحم والخليل، وشرقاً حتى "معالية أدوميم"، وشمالاً حتى حدود بلدتي رام الله والبيرة، وغرباً حتى مستوطنة "بيت شيمش".
ونشرت الصحافة الإسرائيلية تفاصيل إضافية عن أبعاد التوسع الأخير والمخططات الاستيطانية في المدينة وحولها، فظهرت في صحيفة "يديعوت أحرونوت"خريطة جديدة لـ "القدس العظمى" تتسع بموجبها حدود المدينة لتشمل دائرة قطرها 23 كيلومتراً أي ما يعادل 10ـ15% من مساحة الضفة الغربية.
وتم تشكيل لجنة يهودية من كبار الفنيين المختصين من وزارتي الداخلية والإسكان وإدارة أراضي إسرائيل وبلدية القدس لوضع خطة هيكلية لتطوير "القدس العظمى" ضمن الحدود المشار إليها، وكان ذلك في فترة حكم الليكود . ومع وصول (العمل) إلى الحكم عام 1993م صادقت الحكومة الجديدة على مواصلة هذه اللجنة لعملها الذي لايزال مستمراً حتى اليوم.
ولاشك أن إسرائيل قد قطعت شوطاً كبيراً في تنفيذ مخطط "القدس العظمى" خاصة مع ارتفاع نسبة التملك الإسرائيلي للأراضي والعقارات في القدس وذلك إثر الضغوط المتلاحقة على المواطنين وما يتعرضون له من إيذاء وضرر وزج الأطفال والشباب في غياهب السجون لحمل أهلهم على التخلي عن السكن في مدينة القدس وكان من نتيجة ذلك أن أصبحت نسب التملك في القدس 84% لليهود و14% للعرب و 2% للأجانب مع العلم بأن هذه النسب كانت عام 1948م وما بعدها بما فيها القدس الغربية 4% لليهود و94% للعرب و2% للأجانب هذا إلى جانب إقامة المستوطنات وتطويق القدس بأكثر من 25 مستوطنة من جهاتها المختلفة، ونتيجة لكل هذا تغيرت القدس إلى حد يصعب معه تمييزها؛ فضاع سحرها وجمالها!!
ولعل ذلك ما جعل المهندس اليهودي "إبراهام كحيلة" الذي وضع تصميم مشروع "القدس الكبرى" يقول : سيستحيل على "ياسر عرفات" أن يزعم أن القدس الشرقية هي عاصمته لأن عمليات البناء التي قمنا بها ستجعل تقسيم المدينة من جديد أمراً مستحيلاً.
حظر النشاط الفلسطيني
ويتضمن مخطط "القدس الكبرى" حظر ومنع أي نشاط فلسطيني رسمي في القدس فقد ذكرت صحيفة "هارتس" أن جهاز الأمن الإسرائيلي وضع وثيقة داخلية تتعلق بنشاطات مؤسسات فلسطينية ذات طابع رسمي أو حكومي في القدس ووسائل وقف هذه النشاطات وإغلاق تلك المؤسسات وتقول الوثيقة :إنه من الحيوي استخدام قانون تطبيق اتفاق (غزة ـ أريحا) للعمل ضد مؤسسات فلسطينية ذات طابع حكومي والتي تمس بسيادتنا على القدس".
وحتى الآن لم تحدد الحكومة الإسرائيلية مساحة أراضي القدس العظمى رسمياً ليظل الأمر مفتوحاً أمامها لضم مستوطنات ومساحات جديدة إلى القدس عن طريق فرض الأمر الواقع ثم تثبيته بعد ذلك، وهي السياسة نفسها التي اتبعتها في إقامة وتوسيع الكيان الصهيوني ككل، فمثلما لم ترسم حدوداً نهائية للدولة منطلقة من حدود 1947م كرأس جسر شرعي لها كذلك انطلقت من حدود القدس لعام 1948م فعام 1967م وما تلاه منتقلة من مرحلة خلق الواقع إلى مرحلة تثبيته.
ولا تزال إسرائيل تنتهج السياسة ذاتها تجاه الوجود العربي في القدس وفي سائر فلسطين الهادفة إلى تفتيته وتصفيته ومن ثوابتها في هذا المجال الاستيلاء على الأراضي والتهجير القسري والسيطرة على المياه والمصادر الطبيعية الأخرى وعرقلة البناء وهدم المنازل، فحصول العرب على ترخيص بالبناء في القدس من أصعب الأمور وإذا حصلوا على الترخيص فإن نسب عمليات البناء للعرب تتراوح بين 15 و 75% من مساحة الأرض، أما اليهود فتصل نسبتهم إلى 300% ولهم بناء ثماني طوابق أم العرب فلا يسمح لهم إلا ببناء منازل من طابقين فقط.
أربعة محاور للتهويد
فالقدس اليوم تواجه خطر محاولات القضاء على هويتها العربية الإسلامية . وتقوم استراتيجية إسرائيل فى خطتها الاستعمارية لمحو شخصية المدينة التاريخية وفق خطة منظمة ذات محاور أربعة:
يتمثل المحور الأول: فى تفسير التاريخ البشرى تفسيراً يهودياً يخدم هذه الدولة ومواطنيها، والفكر الصهيونى الذى تقوم عليه ، متجاهلاً بشكل تام حقائق التاريخ ومعطياته وثوابته ، ويتأكد هذا المحور فى الادعاء بأن القدس يهودية ، متجاهلين فى ذلك الحقائق التاريخية والثوابت الجغرافية التى تؤكد أن القدس مدينة عربية النشأة والتطور، أسسها العرب الكنعانيون الذين سكنوا فلسطين فى الألف الثالث قبل الميلاد ، وإن هذه المدينة ، كما جاء فى كتاب العهد القديم نفسه لم تكن أبدا خالصة لبنى إسرائيل حتى خلال الفترة الإسرائيلية - التى تمثل الفترة المزدهرة فى تاريخ بنى إسرائيل فى فلسطين - من تاريخها والتى تبدأ من عصر داود . وتستغل إسرائيل جميع المحافل الدولية وأية فرصة تسنح لها على المستوى الدعائى والإعلامي فى العالم لإقحام القدس فى المناسبات المختلفة والترويج -زورا وبهتانا- بأنها مدينة اليهود تضرب بجذورها فى التاريخ اليهودى ، وأنها عاصمة أبدية لدولة إسرائيل ؟!
وترمى هذه الخطوات التى تتم فى الخفاء إلى تضليل الرأى العام العالمى من ناحية ، وتعكس من ناحية أخرى مخططاً محكماً ومؤامرة صهيونية –إسرائيلية مدروسة على هذه المدينة وتاريخها وعروبتها لاقتلاع الوجود العربى الإسلامي فيها من الأساس ، من خلال تزييف التاريخ وطمس معالم الحق العربى .
امتلاك القوة العسكرية
ويدور المحور الثانى: حول امتلاك القوة العسكرية واستخدامها في مواجهة الدول العربية والإسلامية المجاورة ، فبدأت فى التسلح بالسلاح النووى لردع أية دولة عربية أو إسلامية تحاول التصدى لها ، وأصبحت تملك ترسانة نووية تشكل تهديدا لمنطقة الشرق الأوسط بأسرها .
أما المحور الثالث للاستراتيجية التى تنتجها إسرائيل: فيقوم على إلغاء المرجعية القانونية التى تخص الصراع العربي الإسرائيلي بشكل عام ، وإلغاء المرجعية القانونية التى تخص مدينة القدس بشكل خاص ، والمقصود بالمرجعية القانونية هنا القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن الصراع ومظاهره ، ومن المعروف فى هذا السياق أن إسرائيل تتبنى موقفا معاديا من هذه القرارات ، لأنها تجمع على إدانتها وإدانة تصرفاتها لذا لا تعترف إسرائيل بها ومن ثم لا تعمل على تنفيذها بل تسعى إلى إلغائها كما حدث مع قرار الأمم المتحدة الذى يقضى بالربط بين الصهيونية والعنصرية عام 1989م . ولكنها تقبل من القرارات الدولية التى تتفق مع ما تريد ، فقد قبلت عند الإعلان عن قيامها بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 والقاضي بتقسيم فلسطين ، لأن الجزء اليهودى فى هذا القرار شكل نواة الدولية الصهيونية الوليدة ، وأعطى اليهود 56% من أرض فلسطين فى حين انهم كانوا يمثلون 5.6 % من نسبة السكان قبل التقسيم ، ولكن إسرائيل لم تعد تقبل بهذا القرار لأنه يسمح بإقامة دولة فلسطينية ، مع انها أعلنت فى بيان إعلان قيام الدولة احترامها لحق الفلسطينيين فى إقامة دولة مماثلة .
القرارات الدولية
ومن أهم القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة بخصوص الصراع العربي الإسرائيلي قراري مجلس الأمن 242 و 338 وقرارات مجلس الأمن الصادرة فى عامى 1980م و1981 التى لا تعترف بأية قيمة قانونية لضم إسرائيل للقدس وهضبة الجولان السورية المحتلة ، وجميع قرارات مجلس الأمن التى تؤكد أن القدس جزء من الأراضي العربية ، وأن هذه الأراضي محتلة . وتحرص إسرائيل فى مفاوضتها السلمية مع الدول العربية على تأكيد أن ما تسفر عنه المفاوضات ينفصل عن مرجعيته بحيث تصبح الاتفاقيات اللاحقة أصلا وليس فرعا وتجب ما قبلها.
ويمكن أن يؤدى نجاح إسرائيل فى إلغاء هذه المرجعية القانونية إلى إضعاف موقف المفاوض الفلسطينى فى مسألة القدس بشكل خاص.
ويسعى المحور الرابع فى الاستراتيجية الإسرائيلية إلى: تحقيق الهدف السابق المتمثل في إضعاف موقف المفاوض الفلسطينى فى مسألة القدس ، وذلك من خلال إلغاء أو الحد مما يمكن أن نسميه المرجعية السكانية الديموغرافية التى تعنى بطبيعة الحال أن الفلسطينيين يمثلون أغلبية واليهود أقلية.. فقد شكل الفلسطينيون - مسيحيون ومسلمون - أغلبية ساحقة فى القدس ، مما يؤكد أحقيتهم بها وأنهم أصحاب الأرض الأصليون دون غيرهم ، والمستوطنون الإسرائيليون يشكلون أقلية حتى فى الوقت الحإلى ، وإن كانت نسبتهم فى المدينة تتزايد ، وقد فطنت إسرائيل إلى خطورة هذه المرجعية مبكراً فأعدّت لها العدة للعمل على إلغائها. وبرز هذا فى المذكرة التى رفعها إسرائيل كوينج ، المسؤول عن المنطقة الشمالية فى وزارة الداخلية الإسرائيلية ، كوثيقة سرية إلى رئيس مجلس الوزراء الإسرائيلى السابق اسحاق رابين 1922-1995م وعدد من كبار المسؤولين الإسرائيلين ، حيث أشار كوينج فى مذكرته إلى زيادة نسبة الزيادة الطبيعية للسكان العرب فى إسرائيل 5.9 %سنويا مقابل انخفاض نسبة الزيادة الطبيعية لليهود 1.5% مما يشكل خطراً على إسرائيل وأمنها ، وتنبأت الوثيقة بسيطرة سياسية وسكانية ديموغرافية عربية فى بعض الأراضى الفلسطينية التى تحتلها إسرائيل .
ومن هذا المنطلق سعت إسرائيل - ومازالت- إلى تغيير هذه المرجعية الديموغرافية ، وتسعى إلى إلغائها من خلال العمل على مسارين متوازيين يسير كل منهما بجوار الآخر..الأول: هو استقدام مستوطنين إسرائيليين متشددين لتوطينهم فى القدس ، ويدخل هؤلاء المستوطنون سباقا مع الزمن لاحتلال المزيد من أراضى المدينة وتهوديها والقضاء المبرم على هويتها العربية والإسلامية وشخصيتها الحضارية المتميزة ، أما المسار الثانى: فيتمثل فى تضييق الخناق على أبناء الشعب الفلسطينى ، أصحاب الأرض الأصليين بحيث لا يجدون أمامهم مفراً من مغادرتها وتركها لهم ، وتحاول تحقيق هذا الهدف عن طريق سن مجموعة من القوانين والتشريعات تقوم على تنفيذها وزارة الداخلية الإسرائيلية .