Unconfigured Ad Widget

Collapse

الشيخ سلمان العودة الامة الواحدة

Collapse
X
 
  • الوقت
  • عرض
مسح الكل
new posts
  • علي الدوسي
    عضو مميز
    • Jun 2002
    • 1078

    الشيخ سلمان العودة الامة الواحدة

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
    فإن هذا العنوان يذكرني بعنوانٍ قديم كنت ... ألقيته قبل عشر سنوات وربما أكثر من ذلك ، وكان بعنوان ( الأمة الغائبة ) وأذكر على إثر تلك المحاضرة أن إحدى الأخوات اتصلت بي آنذاك وكانت مغضبة، وكان من عتبها: أن الزعم بأن الأمة غائبة معناه: الادعاء بأن الأمة تعيش في جاهلية وضلال وفساد وضياع ، وأنه لم يبق على الأرض أحد ممن يوصف بأنه من المسلمين، وكأن هذا الفهم -في تقديري- قد أبعد النُّجعة عن المعنى المقصود .
    إننا حينما نتكلم عن الأمة الغائبة إنما نعني: أن الحضور المشهود الحقيقي الوارد في القرآن عن هذه الأمة : " لتكونوا شهداء على الناس " قد ضعف جداً، ولم يعد له ذلك الوجود القوي التاريخي المتألق المعروف ، وإلاّ فإن المتفق عليه عند المسلمين كافة من أهل العمل والدعوة وغيرهم أنه لا جاهلية مطلقاً بعد بعثة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وأن الأمة لا يزال فيها كثير من أهل الخير ، والتقوى ، والصلاح ، والأمة في جملتها: هي أمة مسلمة اجتمعت على كتاب ربها وعلى سنة نبيها - محمد صلى الله عليه وسلم -، وهم من أهل القيام بأركان الإسلام ، ومن أهل الإيمان بأركان الإيمان ، ومن أهل أداء الواجبات والالتزام بالأخلاق الكريمة في الجملة .
    ولا تخلو الأمة من مثل هؤلاء بل غالب الأمة ملتزم بأصل ذلك ، ونحن - بحمد الله - ممن يعتقد: أن الأصل في هذه الأمة الإسلام .
    وأنه حتى أولئك الذين وقعوا في بعض ما وقعوا فيه من المكفرات إلا أنهم وقعوا في ذلك عن جهل في الغالب ، ومن كان مثلهم جاهلاً ولم يوجد من يعلمه ، ويرفع عنه الجهل ، ويقيم عليه حجة الرسالة، فالأصل بقاؤه على الإسلام ما دام يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإن كان وقع منه ما يُعدُّ كفراً إلا أنه يحكم على الفعل، ولا يُحكم على الأشخاص والأعيان بأنهم من الكافرين إذا كان مثلهم يجهل ، أو كانوا من المتأولين .
    فالمقصود: أننا من أشد الناس نهياً عن الوقوع في تكفير الأمة ، فضلاً عن تكفير الأفراد والأعيان ، فإن هذا مزلق في غاية الخطورة وله أسوأ الآثار ، وربما أقول : إن من أسباب طرقي لموضوع الأمة الواحدة: هو مثل هذه المعاني التي تنتشر أحياناً عند بعض الشباب ، وتجعلهم يختزلون الأمة في طائفة أو مجموعة أو فرقة أو فئة ، ويبتعدون عن سواد الأمة وعامتها ودهمائها وإن كان فيهم ما فيهم ، إلا أنه فرق بين من يشفق على الأمة وينصح لها ، ويحرص على إصلاحها ويشعر بأنه فرد منها ، يؤلمه ما يؤلمها ويسعده ما يسعدها ويحرص على تداركها ، وبين من يبتعد عن هذه الأمة فيرميها بالعظائم من التكفير أو التبديع أو التفسيق أو التضليل أو غير ذلك .
    إنه لا جاهلية مطلقاً بعد بعثة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كما في الحديث الذي رواه البخاري لأبي ذر : (إنك امرؤ فيك جاهلية) رواه البخاري (30)، ومسلم (1661). يرشح لمعنى أن الجاهلية قد تطلق على المعاصي ، ولهذا بوّب البخاري - رحمه الله - في صحيحه : " المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك " فالجاهلية تطلق على معنى الكفر ، وقد تطلق على ما دونه من المعاصي، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدَّ تعيير أبي ذر للرجل الذي كانت أمه أعجمية ـ وقال له : يا بن السوداء ـ من الجاهلية.
    وروى مسلم (934) من حديث أبي مالك الأشعري أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب ... ) ولا يلزم من هذا تكفير الأمة ، ومع ذلك فنحن نقول : لا داعي لأن نطلق لفظ الجاهلية على الأمة كلها ، فإنه لا جاهلية مطلقاً في الأمة .
    نعم. قد توجد الجاهلية في أفراد، وقد توجد في بلد دون بلد، أو في مكان دون مكان لكن أن تكون الجاهلية في الأمة كلها مطلقاً بعد بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهذا لن يكون إلا في آخر الزمان كما في حديث حذيفة الذي رواه ابن ماجه (4049) بسند صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله - عز وجل - في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون : أدركنا آباءنا على هذه الكلمة : لا إله إلا الله، فنحن نقولها ) .
    فالمقصود أن الأمة باقية ولله الحمد ، وقد رأيت أن أحد الباحثين المجوّدين وهو الدكتور ماجد الكيلاني ، كتب كُتباً في الأمة وذكر أن الأمة تمر بثلاث مراحل :
    المرحلة الأولى : مرحلة القوة ، وهي تعلق الأمة بالرسالة ، وقد يسميها مرحلة الصحة أو العافية .
    المرحلة الثانية : مرحلة المرض، وهي مرحلة تعلق الأمة بالأشخاص سواء كانوا قبائل أم أفراداً أم أسراً أو ما أشبه ذلك.
    المرحلة الثالثة : مرحلة الموت ، وهي مرحلة تعلق الأمة بالشهوات والمال والسلطان والجاه وغيرها من الأمور الدنيوية.
    وكأن هذا التقسيم مقتبس من المثل الذي يقول : العظماء يتعلقون بالأفكار ، والمتوسطون يتعلقون بالأشياء، والضعفاء يتعلقون بالأشخاص .
    وفي تقديري أن هذا التقسيم لا يخلو من ملاحظة ، خصوصاً في شِقّهِ الأخير فإن الأمة المسلمة تمرض لكنها لا تموت ، تمر بمرحلة المرض لكن يدافع هذا المرض دواءٌ ربانيٌ نبويٌ هو التجديد الذي أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها ) رواه أبو داود (4291) بسند جيد .
    ثم إن لفظ الأمة في القرآن الكريم ورد بمعان عدة ، حتى إن الفيروز آبادي في (بصائر ذوي التمييز) ذكر له عشرة معانٍ ، وأظن أن هذه المعاني يمكن اختصارها إلى خمسة:
    المعنى الأول: أمة بمعنى: إمام أو قدوة كما في قوله تعالى في سورة النحل: " إن إبراهيم كان أمةً قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين" فمعنى قوله : أمة أي أنه كان قدوة في الخير كما نقل عن أكثر المفسرين والسلف، ويجوز أن يكون المعنى في هذه الآية (كان أمة ) يعني: أنه كان أمة وحده؛ لأنه لم يكن في الأرض مؤمن سواه ، ولهذا جاء هذا المعنى عن ابن عباس - رضي الله عنه - وجاء عن سعيد بن جبير ، وقال فروة بن نوفل الأشجعي: قال ابن مسعود: إن معاذاً كان أمة قانتا لله حنيفا فقلت في نفسي: غلط أبو عبد الرحمن ، إنما قال الله :" إن إبراهيم كان أمة "، فقال: تدري ما الأمة؟ وما القانت؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: الأمة الذي يعلم الناس الخير، والقانت: المطيع لله ورسوله، وكذلك كان معاذ يعلم الخير، وكان مطيعاً لله ورسوله. [انظر تفسير ابن كثير، الآية 123 من سورة النحل].
    المعنى الثاني : الأمة بمعنى: المدة من الزمن " وقال الذي نجا منهما وادّكر بعد أمة " يعني بعد زمن ، وكذلك قوله تعالى :" ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه " يعني إلى وقت محدود ، فقد تطلق الأمة ويقصد بها: الزمن، وهنا نلحظ نوعاً من الترابط بين الأمة وبين الزمن ؛ لأن الأمة لها زمن تنتهي فيه ، ولهذا يقول الله تعالى : " ولكل أمة أجل " فكأن المعنى أخرنا عنهم العذاب إلى أجل ، وادَّكر بعد أجل ، بعد فترة معينة فهذا رابط بين المعنيين .
    المعنى الثالث : المذهب والطريقة سواء كانت حقاً أو باطلاً " بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة "، " وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة " يعني على طريقة ومنهج ، وإن كان منحرفاً وضالاً لكنهم التزموه ؛ لأنهم وجدوا عليه الآباء والأجداد .
    المعنى الرابع : الجماعة من الناس أو الطائفة حتى ولو كانت قليلة تسمى أمة ، كما في قوله تعالى : " ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون " أي جماعة ، وكذلك قوله تعالى : " كلما دخلت أمة لعنت أختها " يعني طائفة أو جماعة .
    المعنى الخامس وهو الأخير والمقصود : أن الأمة في القرآن تطلق ويراد بها: القوم المجتمعون على الدين الواحد ، وقد ورد هذا في آيات كثيرة جداً من القرآن منها قوله تعالى : " كان الناس أمة واحدة " فقد صح عن ابن عباس وغيره أنه قال : كان الناس أمةً واحدة على الهدى؛ وكان بعد آدم عليه الصلاة والسلام عشرةُ قرون من ذريته كلهم كانوا على الإيمان والتوحيد ، حتى جاءت الشياطين فاجتالتهم عن دينهم فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين . فهذا معنى قوله : (أمة) وكذلك قوله تعالى : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " فالمقصود: أنهم كانوا أمة خير للبشرية لم يُخْرَجُوا لأنفسهم ليعيشوا لذواتهم وهمومهم الخاصة، وإنما أخرجوا ليعيشوا للناس معلمين ، ومرشدين ، وهادين ، وقائدين لهم إلى الجنة، قال أبو هريرة رضي الله عنه كما في صحيح البخاري (4557) لما تلا هذه الآية : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " : خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم، حتى يدخلوا في الإسلام ، و جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال في قوله : (( كنتم خير أمة أخرجت للناس )): هم الذين هاجروا مع الرسول –صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة . وقال عمر - رضي الله عنه - وقد تلا هذه الآية: لو شاء الله عز وجل لقال : أنتم ، فكنّا كلّنا . ولكنه قال : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " في خاصة أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن صنع مثل صنيعهم ، و قال أيضاً –رضي الله عنه- : تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا ( انظر تفسير الطبري ، والدر المنثور- الآية 110 سورة آل عمران ) وكأنه –رضي الله عنه- لمح هذا المعنى في قوله : ((كنتم )) فهو فعل ماضٍ ، وهم كانوا في عصورهم الأولى " خير أمة أخرجت للناس" حين كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله ؛ أما إذا فرّطوا في ذلك وتحالفوا على غير تقوى الله والإيمان به وقصّروا فيما أمر الله به من الشهادة على الناس فإنه لا يكون لهم ذلك .
    وقال قتادة : بلغنا أن عمر بن الخطاب في حجة حجها رأى من الناس رعة (أي هيئة غير حسنة) فقرأ هذه الآية (( كنتم خير أمة أخرجت للناس )) ثم قال : من سره أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله - تعالى - فيها ) رواه ابن جرير في تفسيره ( الآية 110 من سورة آل عمران) .وشرط الله الذي أشار إليه عمر هو قوله تعالى : (( تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله )) .
    إن هذه الآيات وغيرها مما في معناها قررت لنا قاعدة إسلامية عريضة عظيمة إجماعية وهي : أن الله سبحانه وتعالى قد عقد راية الإخاء والولاء والمودة والمحبة بين أهل الإسلام ، وهذا قرار إلهي عظيم صارم لا مجال للتردد فيه ، يقول الله - سبحانه وتعالى -: " إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون " والشيء اللافت للنظر في هذه السورة واسمها (الأنبياء) أن الآية نفسها تكررت في سورة بعدها وهي سورة (المؤمنون) ولاحظ الاسمين الأنبياء ، والمؤمنون ، في السورة الأولى ذكر الله قصص الأنبياء وأسماءهم ، ذكر موسى وإبراهيم وهارون وعيسى وزكريا ويحيى وذا الكفل وذا النون وغيرهم من الأنبياء ، ثم أثنى عليهم بما أثنى به ، ثم قال : " إن هذه أمتكم أمة واحدة " وأدخل معهم مريم - عليها السلام - ولو لم تكن من الأنبياء ولكن الله تعالى ألحقها بهم لفضلها ومزيتها، ولأنها كانت أمَّاً لعيسى عليه الصلاة والسلام ، فذكر الله هـؤلاء الأنبياء ، ثم قرر هذه القاعدة : " إن هذه أمتكم أمة واحدة " فما مرجع الضمير ؟ وهل المقصود أن الأنبياء أمتكم ؟ أو المقصود هذه الأمة المحمدية الخاتمة هي أمتكم ؟
    اختلف المفسرون في هذا المعنى ، والأقرب - والله تعالى أعلم -: أن هذه آيات كرَّس الله تعالى فيها معنى الأمة الواحدة ، وأنها بدأت بوجود آدم عليه الصلاة والسلام ، وعَبَرت المراحل والسدود والحدود والأزمنة كلها ، حتى آلت النوبة فيها إلى خاتم الرسل وسيدهم محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، فكان حامل الراية وخاتم المرسلين ، وإمامهم في الدنيا ويوم الدين ، وكانت أمته هي خير الأمم وآخرها ، وهي وريثة هدي الأنبياء ودعوتهم ، ولهذا لا يوجد على ظهر الأرض منذ بُعث الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - أمة تحمل النور المتمثل في القرآن الكريم، وهذا الكتاب المعصوم من التحريف والتبديل، والزيادة والنقص " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه"، " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " .
    والأمة التي تُمثل قدراً من الالتزام بقيم القرآن ومعاييره وأوامره ونواهيه عبر العصور وإن كان يحصل لها من الخلل ما يحصل وإن كان فيها من النقص والجهل والظلم والانحراف الشيء الذي لا يخفى إلا أنها مع ذلك تظل أفضل من الأمم الكتابية الأخرى بمراحل ، فعندها في مقابل ذلك من الخير والهدى والإيمان والعلم وآثار النبوة ما ليس عند غيرها في واقع حياتها العلمي والعملي ، فضلاً عن أنها تمتلك النور الذي لو عملت به لصلحت، وأصلحت ألا وهو الكتاب والسنة الصحيحة .
    وإشارته سبحانه وتعالى بعد ذلك " وتقطعوا أمرهم بينهم " هي إشارة إلى ما وقعت فيه الأمم الكتابية السابقة من الخلاف والتناحر والتباغض، واختلاف القلوب والمواقف، وتحذير من الله - تعالى - أن هذه الأمة التي أخبر الله أنها أمة واحدة يجب عليها أن تلتزم بالوحدة وألا تسلك مسلك الأمم الكتابية قبلها في الخلاف وأنهم تقطعوا أمرهم بينهم، كأن هناك أمراً واحداً بجمعهم فقاموا وتقطعوه ، فكل فئة منهم أخذت قطعة من هذا الأمر ، وهذا هو المعنى الذي تجده في السورة الثانية ، وهي سورة (المؤمنون) فإن الله ذكر الأنبياء موسى وعيسى وهارون ثم قال سبحانه : " وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون " فأكد المعنى نفسه وقرر وحدة الأمة وأنها ليست أُمماً ، ثم قال : " وتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون " فهم تقطعوا هذا الأمر بينهم ، ثم قال: "زبُراً " والزبُر : جمع زَبور والزبور : هو الكتاب ؛ لأنه مزبور ، أو مسطور ، أو مكتوب قال الشاعر :
    تمنى كتاب الله أول ليله تمني داود الزبور على رِسْلِ
    " وآتينا داود زبوراً " فالزبر هي الكتب ، هؤلاء تقطعوا أمرهم بينهم زبراً كأن كل فئة أخذت بجزء من الدين وجانب منه وغفلت عما سواه ، وفرحت بهذا الذي أوتيت من العلم وغفلت عما عند غيرها " فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً " .
    وهذا فيه إشارة إلى مشكلة الخلاف العلمي الذي يعصف بالأمة والذي لا يكون مبنياً على حجة شرعية ولا على أصول صحيحة ، وإنما داخله شيء من الهوى، أو الغرور، الذي جعل الأمر خلاف تضاد لا خلاف تنوع، فهي إشارة إلى خطورة الخلاف العلمي، أو التجاذب العلمي الانتقائي ، الذي يتجلبب بجلباب العلم ولكنه يأخذ ببعض الكتاب ويدع بعضاً ، أو يضخم بعض الأمور على حساب بعضها الآخر ؛ ولهذا قال الله - سبحانه وتعالى -: " كل حزب بما لديهم فرحون " فهذا يوحي إلى أنهم نسوا انتماءهم إلى الأمة وتحولوا إلى أحزاب متناحرة ، وليس الخلاف المشروع المنسجم مع الأصول الشرعية والقواعد المرعية والذي كان موجوداً في عهد الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين ومن بعدهم من الأئمة الأربعة وسواهم .
    فاجتماع هذه الأحزاب ليس على عواصم الدين ومحكمات الشريعة وقواعد الملة، وإنما هو على خصوصية معينة اختزل الدين فيها واختارها وغفل عما سواها ، فهم اجتمعوا على الخصوصيات لا على الأعمال ، وهؤلاء فهموا شيئاً وتحالفوا عليه، ونابذوا من خالفهم فيه وأولئك تحالفوا على شيء آخر ، وهكذا وُجِد الخلاف في الأمة " كل حزب بما لديهم فرحون " .
    وهنا أُشير إلى معنى مهم وهو أن الله - سبحانه وتعالى - في مواضع من القرآن الكريم ومن السنة النبوية منه ما يبلغ مبلغ التواتر وهو أن الله - سبحانه وتعالى - جعل للمسلمين من المظاهر والعقائد والمعاني والأحوال والأحكام ما يخالفون به غيرهم من الأمم المنحرفة كاليهود والنصارى ، ونهانا الله - سبحانه وتعالى - عن التشبه بهم كما في قوله تعالى : " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم " فنهانا عن التشبه بهم في أعمال القلوب ، كما نهانا عن التشبه بهم في الخلاف ، ولهذا قال الله - سبحانه وتعالى - لما ذكر اليهود وما جرى لهم : " تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون " فأشار إلى أن الخلاف الذي يصل إلى هذا الحد لا يقع إلا من قوم ضعف عليهم الدين، وضعف عليهم العقل أيضاً ؛ لأن العقل يقتضي أن يكون بينهم نوع من التناصر والتلاحم والتقارب يستطيعون أن يتغلبوا به على مشكلاتهم وعلى ما يواجههم ، فالمحكمات في القرآن والسنة دلت على أن هذه الأمة ينبغي أن تكون متميزة عن الأمم الأخرى في أعمالها ، وعقائدها ، وسلوكها ، وخصوصياتها لكن ليس هذا التميّز مطلباً شرعياً داخل هذه الأمة إلا عن المنحرفين كأهل البدع، وأهل المعاصي والفسوق وغيرهم ممن يجاهرون بذلك ويتظاهرون به ، وإلا فالأصل ألا يحرص المسلم على ألا يتميز عن إخوانه المسلمين ، بمعنى أن يكون التميز هدفاً بذاته ومقصداً يختاره إما في هيئته ولباسه أو في عمله أو غير ذلك ، إلا ما كان من أمر الدين ومن أمر الشرع الذي أهمله الناس فهو يحيي ما اندرس من أمر الملة ، فإنه يحيي السنة التي قد أميتت ، أما كون الإنسان يتعمد أن يخالف الناس في أشياء ليست من السنة ، فإن هذا قد يكون من الشهرة التي ورد النهي عنها والتحذير منها كما في حديث ابن عمر مرفوعاً : ( من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوب مذلة) رواه أبو داود (4029) وابن ماجه (3606) بسند حسن .
    وقد كان السلف يكرهون الشهرة حتى في بعض الأعمال التي قد يكون لها أصل ، لكن هذا الأصل ليس بظاهر أو ليس بقوي ، فيحبون موافقة الناس ويكرهون مخالفتهم إذا لم يكن في الأمر تشريع أو سنة صحيحة، وقد رأيت بعض الإخوة من جراء انغماسهم في الولاء الخاص وغفلتهم عن الولاء العام يضخمون ويبالغون في بعض الوارد ، فليس من الفقه فيما يبدو لي الحرص على التميز عن جمهور المسلمين بمعنى معين لذات التميّز ؛ لأن هذا نوع من العلو أو التفوق عليهم ، أو طلب الرياسة فيهم ، وإنما يتميز الإنسان بسنة أهملوها فيعمل بها ، أو بتقصير شاع عند الناس فيتخلى عنه ، أو بعمل خير عمله وقصد أن يقتدي الناس به وهذا باب واسع وبين هذا وذاك فرق ليس يخفى .
    إن الله - تعالى - عقد أواصر الأخوة بين المؤمنين ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - أكد هذا المعنى في كثير من الأحاديث التي بينت حقوق المسلم على أخيه ، ولا يتسع المجال لسرد هذه الأحاديث ، لكن أذكر بعض هذه الحقوق على سبيل الإجمال :
    أولاً : الحقوق القلبية ، وأعني بها : ما يتعلق بقلب المسلم ومحبته لأخيه المسلم وحسن ظنه به وسلامة صدره قِبَله ، والفرح بما يصيب إخوانه المسلمين من الخير والحزن لما يعرض لهم من الشر ، فإذا علم المسلم بأمر خير أصاب إخوانه المسلمين وجب عليه أن يُسـَّر بذلك ويفرح ويغتبط " قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا " لأنه يرى أن ما أصاب إخوانه المسلمين من الخير أصابه ، وما كسبوه من المال كأنما كسبه ، وهكذا كل خير وقع لهم ، وعلى النقيض من ذلك يحزن لكل مصاب يقع بهم ، حتى ولو كان فرداً عثر في شرق الأرض أو غربها ، أو مسلمة انتهك عِرضها ، أو شعب من الشعوب نزل به نازلة، أو أصابته جائحة أو اعتدى عليه معتدٍ ، فيشعر بالحزن لهذا ، وهذا أقل ما يجب للمسلم على المسلم وهذا النوع من الحزن حزن مشروع ، نعم. لم يتعبدنا الله - سبحانه وتعالى - بالأحزان وحدها ، لكن هذه المعاني القلبية هي الوقود والدافع الذي يحمل الإنسان على الفعل ، فإن أقل ما يفرزه هذا الشعور -إذا كان صحيحاً- الفرح للمسلمين إن أصابتهم سراء أو الحزن إذا أصابتهم بأساء أو ضراء أن ينتج :
    ثانياً : الحقوق اللسانية : لأخيك المسلم عليك ، كرد السلام ، وتشميت العاطس والثناء بالخير على من يستحقه ، والتعليم للجاهل ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر والدعاء والتضرع لهم وهذا بعض أثر الشعور القلبي الذي تحمله لإخوانك المسلمين فإن الدعاء لهم أمر لا يستهان به ، وربما دفع الله بالدعاء شراً عن المسلمين ، وكما قال الله سبحانه وتعالى : " ادعوا ربكم" وقال جل شأنه : " ادعوني أستجب لكم " وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الدعاء هو العبادة " والحديث صحيح رواه الترمذي (3247)، وأبو داود (1479). ومن مأثور قول الشافعي -رحمه الله- :
    [glint][grade="00008B FF6347 008000 4B0082"]سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم[/grade][/glint]
Working...