أظنك أيها القارئ الكريم قد مللت من كثرة التحليلات والمقالات التي تتناول الحرب المحتدمة هذه الأيام وتموج بالتباين والتناقض، ومع هذا فكل منها يدعي أنه يقدّم النظرة الصائبة والكلمة الفصل في هذه القضية الخطيرة الجليلة، ومن ثم فرأفة بحالك وبحالي فلن أزيد رأسك صداعا على صداع، وسأطرق بابا فيه الصدق والجدة والفائدة، ولنترك لأهل التحليل والتعليل ساحة الجدل والدجل، فعما قريب تتكشف الأمور وتنزاح الستور، وحين تطل الحقيقة -حلوة كانت أو مرة- بوجهها الصبوح سينجلي الغبار ومعه كل هذا الهذر الفارغ.
يرى كثير من الناس أن الشعراء -لخيالهم الجامح وعاطفتهم الفياضة- بعيدون عن روز الأمور حق روزها، وتفسير الوقائع بحنكة وخبرة وموضوعية، وفي قضية جدية كالحرب فإن أحدا لن يعول كثيراً على رأيهم فيها، فلو كان حديثهم مثلاً عن الحب والغرام لما نازعهم أحد ريادته؛ لأنهم أربابه وأفراس ميدانه، أما الحرب فمالهم ومالها! هكذا يظنون! والحق أن الشعراء - ولا فخر - هم أخبر الناس بهذه المأساة وأبصرهم بحقيقة حالها ومآلها، أرخ سمعك لقول حكيم الشعر الجاهلي (زهير بن أبي سلمى) حين يصف الحرب وينعت عواقبها نعت الخبير المجرب:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمُ
وما هو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمـةً
وتضر إذا ضريتموها فتضرم
والحرب في نظر الأدب عند اندلاعها تكون كالصبية الحسناء التي تتفجر أنوثة وفتنة، فيتهافت على خطب ودها العشاق، وتشرئب إليها الأحداق قبل الأعناق، حتى إذا تمكنت من القلوب وتيقنت من وقوع المفتونين بها في شراكها وشباكها، قذفتهم إلى هاوية مظلمة وتكشفت حقيقتها عن عجوز شمطاء كريهة المنظر قبيحة الرائحة، كما يصورها الفارس الشاعر عمرو بن معدي كرب في قوله:
الحرب أول ما تكـــــون فُتية
تسعى بزينــــتها لكل جهــول
حتى إذا حميت وشبّ ضرامها
عادت عجوزا غير ذات خليل
شمطاء جزت رأسها وتنكّرت
مكــــــروهة للشمّ والتقبيـــل!
وليس يجمع الشعراء على شيء كإجماعهم على أن نار الحرب يصطلي بها عادة الأبرياء، الذين لم يكن لهم دور في إشعال فتيلها، ولا ناقة لهم فيها ولا جمل، وأما جناتها الحقيقيون فهم بمعزل عنها، لا يمسهم من شررها وشرورها سوء، وإنما قالت العرب (الحرب غشوم)؛ لأنها تنال غير الجاني، فيقول أحدهم:
لم أكن من جناتها - علم الله - وإني لحرها اليوم صالي!
ويختصر آخر الموقف العجيب الحافل بالتناقض بقوله:
رأيتُ الحرب تجنيها أناس ويصلي حرها قوم براء
ويصور آخر سرعة انتقال مآسيها إلى غير موقديها بالجرب الذي يضرب الإبل، فتعدي المريضة الصحيحة، لتعم الآفة القطيع كله فيقول:
الشيء يبدأه في الأصل أصغره
وليس يصلي بنـار الحرب جانيها
والحرب يلحق فيها الكارهون كما
تدنو الصحاح إلى الجربى فتعديها
وإذا كان سير الأحداث في الحرب على هذا النحو غير المنطقي، فليس بغريب أن تخفق الحكمة والعقلانية في تسييرها، ليقودها أهل العجلة والسفاهة كما يقول أبوتمام:
والحرب تركب رأسها في مشهد
عُدل السفيه به بألف حليم
في ساعة لو أن لقمانا بهـــا
والحكيم لصار غير حكيم!
وأما الأمير أحمد شوقي فإنه يعبر عن نظرة الشعر الإنسانية التي يؤلمها منظر الأشلاء والضحايا في أي الصفين كانت، إذ لا يليق أن تصبح تلك المشاهد الدامية مدعاة للتفكه والتندر والشماتة:
وما كان لي في الحرب رأي ولا هوى
ولا رُمتُ للناس هذا الثكل واليتمــا
ولم يك ظلم الطير بالرق لي رضــا
فكيف رضائي أن يرى البشر الظلما؟
--------------------------------------------------------------------------------
*
يرى كثير من الناس أن الشعراء -لخيالهم الجامح وعاطفتهم الفياضة- بعيدون عن روز الأمور حق روزها، وتفسير الوقائع بحنكة وخبرة وموضوعية، وفي قضية جدية كالحرب فإن أحدا لن يعول كثيراً على رأيهم فيها، فلو كان حديثهم مثلاً عن الحب والغرام لما نازعهم أحد ريادته؛ لأنهم أربابه وأفراس ميدانه، أما الحرب فمالهم ومالها! هكذا يظنون! والحق أن الشعراء - ولا فخر - هم أخبر الناس بهذه المأساة وأبصرهم بحقيقة حالها ومآلها، أرخ سمعك لقول حكيم الشعر الجاهلي (زهير بن أبي سلمى) حين يصف الحرب وينعت عواقبها نعت الخبير المجرب:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمُ
وما هو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمـةً
وتضر إذا ضريتموها فتضرم
والحرب في نظر الأدب عند اندلاعها تكون كالصبية الحسناء التي تتفجر أنوثة وفتنة، فيتهافت على خطب ودها العشاق، وتشرئب إليها الأحداق قبل الأعناق، حتى إذا تمكنت من القلوب وتيقنت من وقوع المفتونين بها في شراكها وشباكها، قذفتهم إلى هاوية مظلمة وتكشفت حقيقتها عن عجوز شمطاء كريهة المنظر قبيحة الرائحة، كما يصورها الفارس الشاعر عمرو بن معدي كرب في قوله:
الحرب أول ما تكـــــون فُتية
تسعى بزينــــتها لكل جهــول
حتى إذا حميت وشبّ ضرامها
عادت عجوزا غير ذات خليل
شمطاء جزت رأسها وتنكّرت
مكــــــروهة للشمّ والتقبيـــل!
وليس يجمع الشعراء على شيء كإجماعهم على أن نار الحرب يصطلي بها عادة الأبرياء، الذين لم يكن لهم دور في إشعال فتيلها، ولا ناقة لهم فيها ولا جمل، وأما جناتها الحقيقيون فهم بمعزل عنها، لا يمسهم من شررها وشرورها سوء، وإنما قالت العرب (الحرب غشوم)؛ لأنها تنال غير الجاني، فيقول أحدهم:
لم أكن من جناتها - علم الله - وإني لحرها اليوم صالي!
ويختصر آخر الموقف العجيب الحافل بالتناقض بقوله:
رأيتُ الحرب تجنيها أناس ويصلي حرها قوم براء
ويصور آخر سرعة انتقال مآسيها إلى غير موقديها بالجرب الذي يضرب الإبل، فتعدي المريضة الصحيحة، لتعم الآفة القطيع كله فيقول:
الشيء يبدأه في الأصل أصغره
وليس يصلي بنـار الحرب جانيها
والحرب يلحق فيها الكارهون كما
تدنو الصحاح إلى الجربى فتعديها
وإذا كان سير الأحداث في الحرب على هذا النحو غير المنطقي، فليس بغريب أن تخفق الحكمة والعقلانية في تسييرها، ليقودها أهل العجلة والسفاهة كما يقول أبوتمام:
والحرب تركب رأسها في مشهد
عُدل السفيه به بألف حليم
في ساعة لو أن لقمانا بهـــا
والحكيم لصار غير حكيم!
وأما الأمير أحمد شوقي فإنه يعبر عن نظرة الشعر الإنسانية التي يؤلمها منظر الأشلاء والضحايا في أي الصفين كانت، إذ لا يليق أن تصبح تلك المشاهد الدامية مدعاة للتفكه والتندر والشماتة:
وما كان لي في الحرب رأي ولا هوى
ولا رُمتُ للناس هذا الثكل واليتمــا
ولم يك ظلم الطير بالرق لي رضــا
فكيف رضائي أن يرى البشر الظلما؟
--------------------------------------------------------------------------------
*