دروس في الإيمان (3) للدكتور عبد الله قادري
[هذه الحلقات من رسالة طبعت بهذا العنوان، وقد نفدت، ولشدة حاجة المسلمين، ولا سيما في الدول غير الإسلامية فضلت نشرها على حلقات.]
تنبيهات
التنبيه الأول:
هناك تعريف للإمام أبي حنيفة رحمه الله قد يخالف ظاهره التعريف المذكور، وهو:أن الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان ، فلم يدخل في هذا التعريف عمل الأركان.
ومعنى هذا أن العمل غير داخل في مسمى الإيمان، والذي حققه العلماء أن الخلاف بين أبي حنيفة وجمهور أهل السنة لفظي من حيث النتيجة، لأمرين:
الأمر الأول :
أن أصحاب الذنوب داخلون عند أبي حنيفة تحت الذم والوعيد-كما هم داخلون كذلك عند الجمهور-فلا يستحق المدح المطلق ودخول الجنة ابتداء إلا من جمع بين التصديق والعمل الصالح وابتعد عن الكبائر.
الأمر الثاني :
أن من أهل الكبائر من يدخل النار ولكنه لا يخلد فيها، ومنهم من يدخل الجنة ولكن بعفو الله ومغفرته، وهذا هو مذهب السلف رحمهم الله.
فالخلاف إذا بينه وبينهم هو دخول العمل في مسمى الإيمان عند الجمهور وعدم دخوله فيه عند أبي حنيفة، إذ يرى أن العمل لازم للإيمان وليس جزء منه، وبذلك لا يوافق غلاة المرجئة الذين قالوا: إ ن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان ولا لازمة له، وأنه لا يضر مع الإيمان ذنب.ولا تتسع هذه الرسالة لإيراد التعريفات الأخرى ومناقشتها [وقد ناقشت تلك التعريفات في بحث مخطوط بعنوان (الإيمان وأثره في حياة الإنسان)] إذ الهدف معرفة الحق بدليله وقد عرف والحمد لله.
التنبيه الثاني:
أن المانعين لدخول الأعمال في مسمى الإيمان أوردوا شبهة ظنوا أنها تؤيد ما ذهبوا إليه وتلزم الجمهور بمذهب الخوارج الذين يكفرون بالمعاصي-الكبائر-، قالوا: لو كان الإيمان مركبا من أجزاء للزم زوال جميعه بزوال بعضه.
والجواب على ذلك من وجهين:
الوجه الأول: :
أن زوال الإيمان بزوال بعض أجزائه يعود الأمر فيه إلى الشارع فما أثبت الشارع زوال الإيمان بزواله-كترك الصلاة جحدا لوجوبها-أثبتناه، وما لم يثبت الشارع زوال الإيمان بزواله-كترك إكرام الضيف، بل كترك أداء الزكاة تساهلا لا جحدا-لم نحكم بزوال الإيمان بزوال ذلك الجزء، فلا يلزم الجمهور على هذا القول تكفير أهل الكبائر.
الوجه الثاني :
أنه لا يلزم دائما-عقلا-زوال الكل بزوال الجزء، بل قد يزول الجزء ولا يزول الكل، مثال ذلك: المكيلات والموزونات، فإذا كان عندنا عشرون صاعا من قمح ونقص منه شئ فإن اسم القمح لا يزول بزوال بعضه، ويقال:هذا قمح ناقص وهكذا يقال في مرتكب الكبيرة التي لا تخرج صاحبها من الإيمان: مؤمن ناقص الإيمان.[ وقد أجاد في مناقشة هذه المسألة وغيرها شيخ الإسلام ابتيمية في مجموع الفتاوى-مجلد الإيمان]
التنبه الثالث:
أن اسم الإيمان إذا أفرد شمل اعتقاد القلب وقول اللسان وعمل الجوارح، وإذا اقترن بالإسلام أو بالعمل الصالح اختص الإيمان باعتقاد القلب-الذي هو التصديق-واختص ما اقترن به بما عداه .التنبيه الرابع:
المقصود بالعمل يجب أن يعلم أن المقصود بالعمل، هو ما شرع الله تعالى للمؤمن فعله أو تركه، مما يدخل في أحد الأحكام التكليفية الخمسة، التي هي: الواجب والمندوب، والمحرم والمكروه، والمباح، ويدخل في ذلك حقوق الله وحقوق عباده.
فالواجب يثيب الله فاعله ويعاقب تاركه، و المندوب يثيب الله فاعله ولا يعاقب تاركه، و الحرام يعاقب الله فاعله ويثيب تاركه، والمباح يثيب الله فاعله وتاركه إن كان فعله وتركه لله.
فلا يفهم من معنى العمل أنه قاصر على ما تعارف عليه عامة الناس من الشعائر التعبدية، كالصلاة والصيام والحج والزكاة والذكر وقراءة القرآن والجهاد في سبيل الله.... بل هو شامل لكل تصرفات العبد، وبخاصة ما تعلق بذات الإنسان من عمل، سواء أكان من حقوق الله كإقامة الحدود التي لا يقيمها إلا ولي الأمر، فهي من العمل الذي هو جزء من الإيمان،فإذا قام به فقد أدى ذلك الجزء الإيماني، وإذا لم يقم به فقد ترك جزأً من الإيمان، أو ما تعلق بعباده، كبر الوالدين فمن بر بواليه فقد أدى عملا من أعمال الإيمان، ومن لم يبر بهما فقد ترك جزأً من الإيمان.
والآباء إذا قاموا بحقوق أبنائهم من تربية وتعليم وتغذية... فقد أدوا عملا من أعمال الإيمان، وإلاّ نقص من إيمانهم مقدار تقصيرهم في ذلك.
والزوجان إذا قام كل منهما بحق زوجه، فقيامه بذلك من الإيمان، ومن لم يقم بذلك فقد ترك جزءا من الإيمان.
وهكذا من أدى الشهادة الواجب أداؤها عليه فإن أداءه للشهادة من الإيمان، ومن لم يؤدها فقد جزءا واجبا من الإيمان.
والقضاة، إذا حكموا بشرع الله بين المتخاصمين مع العدل، فحكمهم بذلك وعدلهم من الإيمان، وإذا جاروا وظلموا فجورهم وظلمهم نقص من إيمانهم.
والعالم إذا أدى حقوق تلاميذه، فحضر درسه تحضيرا جيدا ليفيدهم بعلم محقق ففعله ذلك إيمان، وإذا قصر في أداء حقهم عليه نقص من إيمانه مقدار تقصيره.
والطلاب إذا قاموا بما يجب عليهم مما فرغوا له من تحصيل العلم والاستفادة من العلماء كان ما قاموا به من الإيمان، وإذا تساهلوا وتركوا القيام بما يجب عليهم فقد نقص من إيمانهم مقدار ما تساهلوا فيه.
والموظف في عمل إداري أسس لمصالح المسلمين إذا قام بعمله في إدارته وأدى الحقوق إلى أهلها في وقتها ففعله ذلك من الإيمان، وإذا أخر حقوق الناس بدون عذر أو نقص من الوقت الواجب عليه شغله، فقد نقص من إيمانه قدر ما قصر فيه.
وولي أمر المسلمين إذا نصح لرعيته وعدل بينهم وأدى إليهم حقوقهم، وولى عليهم الأكفاء الذين يصلحون أمورهم، ففعله ذلك إيمان، وإذا غشهم أو ظلمهم أو ولى عليهم من يشق عليهم، فقد نقص من إيمانه مقدار ما أضر به رعيته.
والرعية إذا نصحت لولي أمرها المسلم فأطاعته في طاعة الله، ونصرته على الخارجين عليه وأمرته بالمعروف ونهته عن المنكر فنصحها له إيمان، وعدم نصحها فسوق ونقص من إيمانها.
والتاجر إذا سلك في تجارته سلوكا شرعيا فباع واشترى مراعيا ما أحله الله له وما حرمه عليه، فصدق في بيعه وشرائه، وبين ما يجب عليه بيانه من عيب أو غيره مما يجب بيانه، وابتعد عن أخذ الربا فسلوكه ذلك من الإيمان، وإذا سلك في تجارته سلوك الغاش المرابي الآكل حقوق الناس بغير حق علموا أم لم يعلموا، فقد فسق ونقص إيمانه.
ومن اؤتمن على مال أو سر مما لا يجوز له الإباحة به فأدى أمانته فأداؤه للأمانة إيمان، فإذا خان أمانته فخيانته فسق ونقص في إيمانه.
والذي يوصل إلى الناس الخير، فيكرمهم، ويصلهم ويعود مريضهم، ويشمت عاطسهم، ويسلم عليهم، ويتبع جنائزهم، ويواسي محتاجهم، وينصح لهم ويحب لهم ما يحب لنفسه، ويدفع عنهم الأذى-وبخاصة في حال غيابهم-، ويمسك لسانه عن الولوغ في أعراضه فلا يغتابهم ولا يتجسس عليهم، ولا يسعى بالنميمة بينهم، ففعله ذلك كله من الإيمان، والذي يسعى إلى الناس بالشر والقطيعة، فيغتابهم أو يرضى باغتيابهم، أو يسعى بالنميمة بينهم ليوغر صدور بعضهم على بعض، أو يتجسس عليهم لكشف عوراتهم، أو الإضرار بهم، فإيمانه ناقص، وفسقه ظاهر.
والذي يتناول ما أباحه الله له من الطعام والشراب واللباس والنكاح وغيرها من المباحات، مبتغيا بذلك وجه الله فأعماله المباحة من الإيمان، وإذا ترك شيئا من المباحات ورعا وخوفا من الوقوع في محرم فإن تركه ذلك من الإيمان، وهو مثاب في كلتا الحالتين.
وهكذا تقاس كل الأعمال.
والذي لا يقوم بأعمال الإيمان التي هي-أصلا وظيفته-فهو أشد الناس جرما وأقلهم دينا، لأنه فرط في عبودية خاصة لله عليه، غير العبودية العامة التي يتساوى فيها مع الناس، كالقاضي في قضائه، والعالم في علمه، والمدير في إدارته، وإن أكثر من الصلاة والصيام والذكر وقراءة القرآن والصدقات.
وعلى أمثال هؤلاء نعى ابن القيم-رحمه الله-النكير فقال: (ولله سبحانه على كل أحد عبودية بحسب مرتبته، سِوى العبودية العامة التي سوى بين عباده فيها.
فعلى العالم من عبوديته نشر السنة والعلم الذي بعث الله به رسوله ما ليس على الجاهل، وعليه من عبودية الصبر على ذلك ما ليس على غيره.
وعلى الحاكم من عبودية إقامة الحق وتنفيذه وإلزامه من هو عليه به والصبر على ذلك والجهاد عليه ما ليس على المفتي.
وعلى الغني من عبودية أداء الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير.
وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما.....
وقد غر إبليس أكثر الخلق بأن حسن لهم القيام بنوع من الذكر والقراءة والصلاة والصيام والزهد في الدنيا والانقطاع، وعطلوا هذه العبوديات فلم يحدثوا قلوبهم بها، وهؤلاء عند ورثة الأنبياء من أقل الناس دينا، فإن الدين هو القيام لله بما أمر به، فتارك حقوق الله التي تجب عليه أسوأ حالا عند الله ورسوله من مرتكب المعاصي.....
ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه، رأى أن أكثر من يشار إليهم بالدين هم أقل الناس دينا.
وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تضاع، ودينه يترك، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها، وهو بارد القلب ساكت اللسان؟ شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق.
وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم، فلا مبالاة بما جرى على الدين، وخيارهم المتحزن المتلمظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله، بذل وتبذل وجد واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه.
وهؤلاء - مع سقوطهم في عين الله ومقت الله لهم-قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب، فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل.[ إعلام الموقعين عن رب العالمين عن رب العالمين (2/176-177)]
[هذه الحلقات من رسالة طبعت بهذا العنوان، وقد نفدت، ولشدة حاجة المسلمين، ولا سيما في الدول غير الإسلامية فضلت نشرها على حلقات.]
تنبيهات
التنبيه الأول:
هناك تعريف للإمام أبي حنيفة رحمه الله قد يخالف ظاهره التعريف المذكور، وهو:أن الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان ، فلم يدخل في هذا التعريف عمل الأركان.
ومعنى هذا أن العمل غير داخل في مسمى الإيمان، والذي حققه العلماء أن الخلاف بين أبي حنيفة وجمهور أهل السنة لفظي من حيث النتيجة، لأمرين:
الأمر الأول :
أن أصحاب الذنوب داخلون عند أبي حنيفة تحت الذم والوعيد-كما هم داخلون كذلك عند الجمهور-فلا يستحق المدح المطلق ودخول الجنة ابتداء إلا من جمع بين التصديق والعمل الصالح وابتعد عن الكبائر.
الأمر الثاني :
أن من أهل الكبائر من يدخل النار ولكنه لا يخلد فيها، ومنهم من يدخل الجنة ولكن بعفو الله ومغفرته، وهذا هو مذهب السلف رحمهم الله.
فالخلاف إذا بينه وبينهم هو دخول العمل في مسمى الإيمان عند الجمهور وعدم دخوله فيه عند أبي حنيفة، إذ يرى أن العمل لازم للإيمان وليس جزء منه، وبذلك لا يوافق غلاة المرجئة الذين قالوا: إ ن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان ولا لازمة له، وأنه لا يضر مع الإيمان ذنب.ولا تتسع هذه الرسالة لإيراد التعريفات الأخرى ومناقشتها [وقد ناقشت تلك التعريفات في بحث مخطوط بعنوان (الإيمان وأثره في حياة الإنسان)] إذ الهدف معرفة الحق بدليله وقد عرف والحمد لله.
التنبيه الثاني:
أن المانعين لدخول الأعمال في مسمى الإيمان أوردوا شبهة ظنوا أنها تؤيد ما ذهبوا إليه وتلزم الجمهور بمذهب الخوارج الذين يكفرون بالمعاصي-الكبائر-، قالوا: لو كان الإيمان مركبا من أجزاء للزم زوال جميعه بزوال بعضه.
والجواب على ذلك من وجهين:
الوجه الأول: :
أن زوال الإيمان بزوال بعض أجزائه يعود الأمر فيه إلى الشارع فما أثبت الشارع زوال الإيمان بزواله-كترك الصلاة جحدا لوجوبها-أثبتناه، وما لم يثبت الشارع زوال الإيمان بزواله-كترك إكرام الضيف، بل كترك أداء الزكاة تساهلا لا جحدا-لم نحكم بزوال الإيمان بزوال ذلك الجزء، فلا يلزم الجمهور على هذا القول تكفير أهل الكبائر.
الوجه الثاني :
أنه لا يلزم دائما-عقلا-زوال الكل بزوال الجزء، بل قد يزول الجزء ولا يزول الكل، مثال ذلك: المكيلات والموزونات، فإذا كان عندنا عشرون صاعا من قمح ونقص منه شئ فإن اسم القمح لا يزول بزوال بعضه، ويقال:هذا قمح ناقص وهكذا يقال في مرتكب الكبيرة التي لا تخرج صاحبها من الإيمان: مؤمن ناقص الإيمان.[ وقد أجاد في مناقشة هذه المسألة وغيرها شيخ الإسلام ابتيمية في مجموع الفتاوى-مجلد الإيمان]
التنبه الثالث:
أن اسم الإيمان إذا أفرد شمل اعتقاد القلب وقول اللسان وعمل الجوارح، وإذا اقترن بالإسلام أو بالعمل الصالح اختص الإيمان باعتقاد القلب-الذي هو التصديق-واختص ما اقترن به بما عداه .التنبيه الرابع:
المقصود بالعمل يجب أن يعلم أن المقصود بالعمل، هو ما شرع الله تعالى للمؤمن فعله أو تركه، مما يدخل في أحد الأحكام التكليفية الخمسة، التي هي: الواجب والمندوب، والمحرم والمكروه، والمباح، ويدخل في ذلك حقوق الله وحقوق عباده.
فالواجب يثيب الله فاعله ويعاقب تاركه، و المندوب يثيب الله فاعله ولا يعاقب تاركه، و الحرام يعاقب الله فاعله ويثيب تاركه، والمباح يثيب الله فاعله وتاركه إن كان فعله وتركه لله.
فلا يفهم من معنى العمل أنه قاصر على ما تعارف عليه عامة الناس من الشعائر التعبدية، كالصلاة والصيام والحج والزكاة والذكر وقراءة القرآن والجهاد في سبيل الله.... بل هو شامل لكل تصرفات العبد، وبخاصة ما تعلق بذات الإنسان من عمل، سواء أكان من حقوق الله كإقامة الحدود التي لا يقيمها إلا ولي الأمر، فهي من العمل الذي هو جزء من الإيمان،فإذا قام به فقد أدى ذلك الجزء الإيماني، وإذا لم يقم به فقد ترك جزأً من الإيمان، أو ما تعلق بعباده، كبر الوالدين فمن بر بواليه فقد أدى عملا من أعمال الإيمان، ومن لم يبر بهما فقد ترك جزأً من الإيمان.
والآباء إذا قاموا بحقوق أبنائهم من تربية وتعليم وتغذية... فقد أدوا عملا من أعمال الإيمان، وإلاّ نقص من إيمانهم مقدار تقصيرهم في ذلك.
والزوجان إذا قام كل منهما بحق زوجه، فقيامه بذلك من الإيمان، ومن لم يقم بذلك فقد ترك جزءا من الإيمان.
وهكذا من أدى الشهادة الواجب أداؤها عليه فإن أداءه للشهادة من الإيمان، ومن لم يؤدها فقد جزءا واجبا من الإيمان.
والقضاة، إذا حكموا بشرع الله بين المتخاصمين مع العدل، فحكمهم بذلك وعدلهم من الإيمان، وإذا جاروا وظلموا فجورهم وظلمهم نقص من إيمانهم.
والعالم إذا أدى حقوق تلاميذه، فحضر درسه تحضيرا جيدا ليفيدهم بعلم محقق ففعله ذلك إيمان، وإذا قصر في أداء حقهم عليه نقص من إيمانه مقدار تقصيره.
والطلاب إذا قاموا بما يجب عليهم مما فرغوا له من تحصيل العلم والاستفادة من العلماء كان ما قاموا به من الإيمان، وإذا تساهلوا وتركوا القيام بما يجب عليهم فقد نقص من إيمانهم مقدار ما تساهلوا فيه.
والموظف في عمل إداري أسس لمصالح المسلمين إذا قام بعمله في إدارته وأدى الحقوق إلى أهلها في وقتها ففعله ذلك من الإيمان، وإذا أخر حقوق الناس بدون عذر أو نقص من الوقت الواجب عليه شغله، فقد نقص من إيمانه قدر ما قصر فيه.
وولي أمر المسلمين إذا نصح لرعيته وعدل بينهم وأدى إليهم حقوقهم، وولى عليهم الأكفاء الذين يصلحون أمورهم، ففعله ذلك إيمان، وإذا غشهم أو ظلمهم أو ولى عليهم من يشق عليهم، فقد نقص من إيمانه مقدار ما أضر به رعيته.
والرعية إذا نصحت لولي أمرها المسلم فأطاعته في طاعة الله، ونصرته على الخارجين عليه وأمرته بالمعروف ونهته عن المنكر فنصحها له إيمان، وعدم نصحها فسوق ونقص من إيمانها.
والتاجر إذا سلك في تجارته سلوكا شرعيا فباع واشترى مراعيا ما أحله الله له وما حرمه عليه، فصدق في بيعه وشرائه، وبين ما يجب عليه بيانه من عيب أو غيره مما يجب بيانه، وابتعد عن أخذ الربا فسلوكه ذلك من الإيمان، وإذا سلك في تجارته سلوك الغاش المرابي الآكل حقوق الناس بغير حق علموا أم لم يعلموا، فقد فسق ونقص إيمانه.
ومن اؤتمن على مال أو سر مما لا يجوز له الإباحة به فأدى أمانته فأداؤه للأمانة إيمان، فإذا خان أمانته فخيانته فسق ونقص في إيمانه.
والذي يوصل إلى الناس الخير، فيكرمهم، ويصلهم ويعود مريضهم، ويشمت عاطسهم، ويسلم عليهم، ويتبع جنائزهم، ويواسي محتاجهم، وينصح لهم ويحب لهم ما يحب لنفسه، ويدفع عنهم الأذى-وبخاصة في حال غيابهم-، ويمسك لسانه عن الولوغ في أعراضه فلا يغتابهم ولا يتجسس عليهم، ولا يسعى بالنميمة بينهم، ففعله ذلك كله من الإيمان، والذي يسعى إلى الناس بالشر والقطيعة، فيغتابهم أو يرضى باغتيابهم، أو يسعى بالنميمة بينهم ليوغر صدور بعضهم على بعض، أو يتجسس عليهم لكشف عوراتهم، أو الإضرار بهم، فإيمانه ناقص، وفسقه ظاهر.
والذي يتناول ما أباحه الله له من الطعام والشراب واللباس والنكاح وغيرها من المباحات، مبتغيا بذلك وجه الله فأعماله المباحة من الإيمان، وإذا ترك شيئا من المباحات ورعا وخوفا من الوقوع في محرم فإن تركه ذلك من الإيمان، وهو مثاب في كلتا الحالتين.
وهكذا تقاس كل الأعمال.
والذي لا يقوم بأعمال الإيمان التي هي-أصلا وظيفته-فهو أشد الناس جرما وأقلهم دينا، لأنه فرط في عبودية خاصة لله عليه، غير العبودية العامة التي يتساوى فيها مع الناس، كالقاضي في قضائه، والعالم في علمه، والمدير في إدارته، وإن أكثر من الصلاة والصيام والذكر وقراءة القرآن والصدقات.
وعلى أمثال هؤلاء نعى ابن القيم-رحمه الله-النكير فقال: (ولله سبحانه على كل أحد عبودية بحسب مرتبته، سِوى العبودية العامة التي سوى بين عباده فيها.
فعلى العالم من عبوديته نشر السنة والعلم الذي بعث الله به رسوله ما ليس على الجاهل، وعليه من عبودية الصبر على ذلك ما ليس على غيره.
وعلى الحاكم من عبودية إقامة الحق وتنفيذه وإلزامه من هو عليه به والصبر على ذلك والجهاد عليه ما ليس على المفتي.
وعلى الغني من عبودية أداء الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير.
وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما.....
وقد غر إبليس أكثر الخلق بأن حسن لهم القيام بنوع من الذكر والقراءة والصلاة والصيام والزهد في الدنيا والانقطاع، وعطلوا هذه العبوديات فلم يحدثوا قلوبهم بها، وهؤلاء عند ورثة الأنبياء من أقل الناس دينا، فإن الدين هو القيام لله بما أمر به، فتارك حقوق الله التي تجب عليه أسوأ حالا عند الله ورسوله من مرتكب المعاصي.....
ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه، رأى أن أكثر من يشار إليهم بالدين هم أقل الناس دينا.
وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تضاع، ودينه يترك، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها، وهو بارد القلب ساكت اللسان؟ شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق.
وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم، فلا مبالاة بما جرى على الدين، وخيارهم المتحزن المتلمظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله، بذل وتبذل وجد واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه.
وهؤلاء - مع سقوطهم في عين الله ومقت الله لهم-قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب، فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل.[ إعلام الموقعين عن رب العالمين عن رب العالمين (2/176-177)]